لم تعلَن بعد بنود الاتفاقية طويلة الأمد بين الولايات المتحدة والعراق. لكن الأكيد أنّ هذه الاتفاقية لن تكون سوى «اتفاقيّة الأمر الواقع». على الأقلّ هكذا يظنّ السواد الأعظم من العراقيّين
بغداد ــ زيد الزبيدي
تضاربت التصريحات والتأويلات والمواقف بشأن ماذا كُتب أو سيُكتَب في الاتفاقية، وما هي الضمانات التي يريدها كلّ طرف. ولعل الموضوع الأكثر تداولاً في المناقشات الإعلامية الدائرة بهذا الصدد، ما يتعلق بـ«السيادة الوطنية العراقية» الغائبة منذ 2003.
ويطيب لمتابعي الشأن العراقي، التذكير بأنّ رئيس الوزراء نوري المالكي نفسه، الذي يبدو حريصاً للغاية منذ فترة على استرجاع سيادة بلاده وجدولة انسحاب القوات الأجنبية، يرأس الحزب الذي تسلّم السلطة الأولى في الدولة المحتلة، وذلك عندما عين الحاكم الاميركي السابق بول بريمر أعضاء مجلس الحكم الانتقالي، وكان أوّل رئيس لذلك المجلس هو إبراهيم الجعفري، الذي كان المالكي مديراً لمكتبه.
وبينما ينهمك الساسة في الإدلاء بالتصريحات، يرى مراقبون أنّ الاتفاقية شكليّة لا أكثر، وأنّ كل ما يجري بحثه هو كيفية تسويقها وتجميلها، لتجنّب ردود الفعل الغاضبة، لا أكثر.
وبحسب هؤلاء المراقبين، فإنّ مسألة الضمانات، وعدم شنّ عمليات عسكرية أو اعتقالات «إلّا بالتنسيق مع الجانب العراقي»، ما هي إلّا أوهام يعرفها هذا الجانب جيداً؛ فالعراقيون جميعهم يدركون أنّ القوات الأميركية تستطيع اعتقال المالكي أو حتى الرئيس جلال الطالباني أو أي مسؤول آخر، وإرساله إلى معتقل غوانتانامو، بتهمة «الإرهاب» أو «تهديد الأمن القومي الأميركي» من دون استئذان أحد.
وفي هذا الصدد، تنظر الفئة الأوسع من العراقيّين إلى «مفاوضات الاتفاقية» على أنها مجرّد «مناورات» لا تعنيهم في شيء، لأنها «اتفاقية الأمر الواقع»، ولأنّ المفاوض العراقي «معيَّن من الطرف الآخر، وهو أعجز من اتخاذ أي قرار يتعلق بالسيادة»، لأنّه يضرّ به قبل غيره، وهذا ما صرّحت به الإدارة الأميركيّة قبل فترة، عندما أعلنت أن الاتفاقية «مطلب عراقي».
وثمة من يرى في بلاد الرافدين أنّ الطرف العراقي الذي طلب التوقيع على الاتفاقية، يعلم جيداً أنّ بقاءه حاكماً، لا يكون إلا ببقاء قوات الاحتلال، وهو يعرف أنّ الاحتلال لا ينوي المغادرة، ليس إكراماً لمن أتى بهم إلى الحكم، بل من أجل مصالحه بعيدة الأمد.
وتبقى هناك بعض نقاط الاستفهام التي تحتاج إلى إيضاحات من حكّام المنطقة الخضراء، ومنها ما عبّر عنه وكيل وزارة الخارجية لبيد عباوي، عندما قال إنّ الولايات المتحدة «ليست بحاجة إلى قواعد دائمة في العراق، لأن لديها في المنطقة ما يكفي ويزيد من القواعد الثابتة والمتحركة، إلّا إذا كان هناك غرض آخر».
ولم يوضح عباوي ما هو هذا «الغرض الآخر»، غير أنّ متابعي الشأن العراقي يلمسون ما تفعله القوات الأميركية، التي تنشئ مدناً اقتصادية وطبقة تجارية وصناعية عراقية مرتبطة بهذه القواعد، وبالتبعية الاقتصادية لها، وتوجِد ركائز في المجتمع العراقي لا تستغني عنها. كما تبقى عبارة «الغرض الآخر» مخيفة بالنسبة إلى البعض، فهل يمكن أن يكون هذا الغرض ضرب إيران انطلاقاً من العراق مثلاً؟ ويلاحظ المراقبون أنّ المطالبة بتحديد أفق زمني لرحيل القوات، رهنته الولايات المتحدة بالواقع على الأرض، وبمدى جاهزية القوات العراقية لإمساك زمام الأمن.
غير أنّ معيار الجاهزية مطّاط، ولا يمكن قياسه بالباروميتر، وخاصة أنّ الطرف الأميركي خطّط منذ بداية الغزو، لأن يبقى العراق من دون جيش قوي، وحصر قواته الأمنية بشرطة الأمن الداخلي. أمّا الأعداد الحاليّة الهائلة لعديد الجيش الحالي، فهي مرشحة للتقليص، وللاستفادة منها قوىً عاملة في المشاريع الأميركية مستقبلاً.
ويبقى الحديث الرسمي عن أنّ القوى الأمنية أثبتت كفاءتها، وأنها تستطيع ملء الفراغ الذي سيتركه رحيل القوات الأميركية، مجرّد «نفخ عضلات»، ولا سيما من بعض القوى الميليشياويّة ذات النفوذ، التي تعتقد أنها تستطيع السيطرة على العراق إذا ما رحل المحتل، بينما هي تدرك عجز عشرات آلاف الجنود المدجّجين بالأسلحة عن السيطرة على منطقة صغيرة، من دون الإسناد العسكري الأميركي، أو من دون المساومات مع جهات مسلّحة.