الإسكندرون جامع «الأمجاد» ورابط الشرق بالغرب
الإسكندرون ــ معمر عطوي
حين دخلت الحافلة منطقة لواء الإسكندرون، في طريقها إلى الداخل التركي، وعلى مشارف المصانع والمعامل التي يزخر بها ساحل مدينة الإسكندرون وميناؤها الهام استراتيجياً بالنسبة إلى الدولة التركية، استحضرني كلام لقائد الانقلاب العسكري التركي في عام 1980، كنعان أفيرين، قاله يومها لمجموعة الضباط التي سيطرت على مقاليد الحكم آنذاك: «إذا تنازلنا عن لواء الإسكندرون لسوريا، فسيطالبون بمناطق أخرى».
في الحقيقة، لواء الإسكندرون ومنطقة كيليكيا مرتبطان عضوياً بجغرافية سوريا الطبيعية. هذا ما يلاحظه الزائر للمنطقة، حيث يرى تشابه التضاريس بين منطقة طرطوس ومنطقة إسكندرون، أو ما يعرف تاريخياً بإسكندرونة. يعزز ذلك علاقات النسب والقرابة بين منطقة حلب السورية على الخصوص وهذه المنطقة، التي تدفع السلطات في البلدين في الأعياد والمناسبات لتسهيل التزاور بين الأقرباء من دون تأشيرة دخول.
تقول لي صديقتي الحلبيّة، إن هذا اللواء تنازلت عنه دمشق لتركيا دفعاً لأي مشاكل مع جارتها التي باتت دولة مهمة في حلف شمالي الأطلسي ترتبط بعلاقات دفاعية مع إسرائيل. تشير إحدى المواطنات السوريات المقيمات في اللواء السليب إلى أن «الرئيس بشار (الأسد) أراد بالتنازل عن هذا اللواء درء خطر الأتراك»، ولا سيما بعد مشكلة المياه التي تفاقمت معهم (خصوصاً ما يتعلق بالاستفادة من مياه نهر الفرات). وتؤكد أن سوريا قد أصدرت بعد اتفاقياتها التي وقعتها مع جارتها بشأن تعزيز التجارة والعلاقات الاقتصادية والاستثمارات، خرائط لا تتضمن لواء الإسكندرون كما في السابق، كما سارعت إلى حذف «عروبة» اللواء من المناهج المدرسية السورية.
قد يكون أحد أهم الأسباب التي دفعت دمشق للتنازل عن لوائها السليب، هو خشيتها من تداعيات الاتفاقية الدفاعية بين إسرائيل وتركيا، ومن تهديد قاعدة انجيرليك العسكرية الأميركية في أضنة (جنوب تركيا) التي كانت على مسافة غير بعيدة من سوريا.
مع العلم أن وصول حزب الرفاه الإسلامي، بقيادة نجم الدين أربكان في عام 1997 إلى السلطة، هو الذي عزّز الحوار بين أنقرة ودمشق. حوار استأنفه وعزّزه حزب العدالة والتنمية الذي تسلّم الحكم في تشرين الثاني من عام 2002.
لم يعط الأتراك لسوريا المياه رغم ذلك، فبقي نهر القويق مقطوعاً من الجانب التركي عن سكان حلب وحمص وحماه منذ 30 عاماً، ما أجبر الحكومة السورية على إقامة مشروع جُرّت بموجبه المياه من نهر الفرات إلى ممر نهر قويق، «للتخلص من مشكلة الروائح الكريهة والمياه الآسنة على الأقل»، كما توضح صديقتي الحلبيّة.
لقد كان لواء الإسكندرون المنفذ البحري التاريخي لولاية حلب. أمّا اليوم، فمدينة الإسكندرون من أهم الموانئ البحرية التي تعتمدها تركيا لتصدير النفط. وللمعامل والمصانع حيّزها الواسع الذي تمكن ملاحظته على طريق ساحل البحر المتوسط؛ يشهد اللواء حركة صناعية في قطاع النسيج والزجاج.
تاريخيّاً، كانت مدينة الإسكندرونة التي بناها الإسكندر الأكبر عام 333 ق.م، (تخليداً لانتصاره على الفرس في شمال غرب لواء الإسكندرون، في رأس الخليج)، مركزاً للتجارة بين الشرق والغرب. وهي لا تزال كذلك بفضل موقعها على البحر المتوسط، فضلاً عن أنها منتجع سياحي هام.
يمكن وصف هذا اللواء بأنه جامع المجد من أطرافه، إذ إن خصوبته وموقعه الاستراتيجي وغناه بالمصانع، ولا سيما الحديد والمعادن، (تتمتع هذه المنطقة بثروات طبيعية غنية مثل الذهب والنحاس والبترول والكروم والنيكل)، لا يسلبه دوره السياحي، نظراً لاحتوائه على مدن تاريخية وسط الطبيعة الغنّاء.
كما يمكن المسافر ملاحظة خصوبة المنطقة، حيث تمتد حقول القطن والحبوب والتبغ والمشمش والتفاح والزيتون على مدى المساحات. يقول أحد سكان «اللواء السليب» إن «معظم المقيمين هنا أتراك ولا وجود كبير للسكان الأصليين كما هو حاصل في أنطاكيا. لقد رفدت أنقرة هذه المنطقة بالعناصر البشرية والصناعية وحوّلتها إلى مناطق صناعية كبرى» فبات العنصر التركي هو الغالب.
يتدخّل رفيقه ليؤكد أن «حدود الأراضي السورية هي جبال طوروس التي تمتد من الساحل الغربي إلى منطقة هاتاري (إمبراطورية آشورية سابقاً)». لكنه لا يتشجّع للحديث عن مصير هذه المنطقة، مفضلاً ترك الأمور للسياسيين في تسوية المشكلة.
وجبال طوروس هي سلسلة جبال كردستان الشمالية في جنوب شرق هضبة الأناضول التركية، وينحدر منها نهر الفرات إلى سوريا.
لكن أحد القوميين السورييين الاجتماعيين، مقيم في القامشلي، ويتردد على تركيا، وهو يصرّ على سوريّة الأراضي بقوله إن «الهلال الخصيب يمتد من الغرب إلى الجنوب الشرقي من الأراضي التي تسمى اليوم تركيّا. هذه الأراضي مسلوبة ونطالب بها». ويضيف أن «مساحة الأراضي السليبة تبلغ جميعها 180 ألف كيلومتر مربع». لكن بعض المراقبين يرى أن الأراضي التي تعود لسوريا لا تتعدّى مساحتها 18 ألف كيلومتر مربع.
«هنا اللواء السليب»، يصرخ أحد ركاب الحافلة. وسط اندهاش معظم المسافرين، الذين لم يدركوا معنى كلمة سليب. ويسكن لواء الإسكندرون أكثر من 900 ألف مواطن سوري، يؤمنون بانتماء هذه الأرض إلى سوريا، ويعمل معظمهم بالزراعة وصيد الأسماك وصناعة الزجاج والنسيج، ويعملون كذلك في التجارة عبر البر والبحر.


لواء الإسكندرون وتبلغ مساحة اللواء 4800 كيلومتر مربع. من أهم مدنه أنطاكيا والإسكندرون وعنتاب ونصيبين وأضنة وأورفة، ومرسين. هو ذو طبيعة جبلية، وأكبر جباله: الأمانوس، والأقرع وموسى والنفاخ. بين هذه الجبال يقع سهل العمق. أما أهم أنهاره فهي: نهر العاصي ونهر الأسود ونهر عفرين.
يطل هذا اللواء على البحر المتوسط، ويشرف على سهول حلب واللاذقية جنوباً، بينما يطل شمالاً على سهول كيليكيا وجبال طوروس.