Strong>وائل عبد الفتاحعصفور النار طار فوق القاهرة وترك إشارة النهاية. هكذا كان احتراق مجلس الشورى. علامة من علامات كثيرة عن تغيير آتٍ. عنيف أو هادئ؟ لا أحد يعرف. التوقع الأقرب هو الوراثة (العائلية مع جمال أو العسكرية مع عمر سليمان)، لكن نهايات غير متوقعة تبقى واردة

استقالة قداسة الرئيس!



«من الذي أجبر برويز مشرف على الاستقالة؟ الرئيس حسني مبارك سأل ومساعدوه أجابوا: البرلمان. وبأسرع من الصوت قرر الرئيس حرق مبنى مجلس الشورى». هذه واحدة من نكت انفجرت بعد حريق الشورى. وراء النكتة خيال ممنوع يريد أن يرى الصحف تخرج بمانشيت: استقالة الرئيس محمد حسني مبارك. خيال يدفع بائع الصحف إلى الضحك محلّلاً: «صحيح حدثت في باكستان ومع جنرال مدعوم من أميركا أكثر. لكن في مصر؟ هذا مستحيل».
المعتدلون في معارضة مبارك يرون أن استقالته من «عاشر المستحيلات»، بينما يرى أصحاب نظرية المؤامرة أن الاستقالة، لو حدثت، ستكون من أجل توريث ابنه جمال الرئاسة في حياته، «وإذا لم يفعل، فإن جمال لن يمسّها».
بهذه العقلية يمكن أن ننظر إلى مشهد التنحّي الشهير. عندما قرر جمال عبد الناصر الاستقالة اعترافاً بالمسؤولية عن هزيمة حزيران ١٩٦٧. الرئيس (وبالتحديد مستشاره الأقرب وقتها الصحافي محمد حسنين هيكل) اختار تعبير «التنحي» بدل الاستقالة. إنه تخلٍّ عن الموقع المهم القريب من الآلهة أو الأنبياء، بما في ذلك من قداسة وتصور بأن الرئاسة ليست وظيفة، بل «مهمة مقدسة».
كل الرؤساء، من محمد نجيب حتى مبارك، تحوّلوا إلى فراعنة عبر آلة مبرمجة على صناعة حكام آلهة، كما كان يحدث في مصر القديمة، حيث الحاكم هو سر استمرار الدولة. آلة تتكوّن من رؤوس متلاحقة: الدعاية والحاشية ورجال الدين والأمن.
الدعاية تصنع صورة الرئيس (محمد نجيب الأب الطيب. عبد الناصر محرر العبيد. أنور السادات مكتشف الديموقراطية. مبارك الزعيم البسيط). الحاشية تلعب بخطاب تفخيم الرئيس، رجال الدين يقلبون الأفعال العادية إلى معجزات (خطب الجمعة تدعو للرئيس. والدعاة في التلفزيون يمجدون تقواه). الأمن هو حائط الدفاع الذي يمنع المقاومة ويعزله في القصر ويوهمه أنه فوق البشر جميعاً.
ورغم الانتقال من الملكية إلى الجمهورية، لم تتغير صلاحية الحاكم. على العكس، أضيفت كل صلاحيات الملك إلى رئيس الجمهورية. الدستور يعطيه الصلاحيات المطلقة، ولا يعترف بمنصب رئيس الحكومة. سلطته لا حدود لها وصلاحياته لا طاقة لشخص واحد على إدارتها، أضف إلى ذلك أنه لا يحاسب.
قبل تعديل المادة 76، لم يكن الدستور يسمح لأكثر من مرشح بدخول معركة انتخابات حقيقية، مكتفياً بطريقة الاستفتاء القريبة من فكرة مجمع الكهنة في الأنظمة المغلقة. وهي فكرة قريبة أيضاً من نظام البيعة في الدول والممالك الإسلامية القديمة. «خليفة» يجمع بين سلطات دينية وسياسية ويستمد شرعيته من الامتداد مع الشخصية المقدسة.
وهذا سر انتشار نسخة مصرية من نكتة فرانكو الشهيرة. ويضحك الناس على مشهد يتصورون فيه المفتي يطلب من الرئيس، وهو راقد في سرير المرض، توديع الشعب، فيسأل بتلقائية: «هو الشعب رايح فين؟».
الرئيس لم يعتد أن يُطرح عليه سؤال عن توديع السلطة. السلطة بالنسبة إليه مطلقة لا تاريخ لها. والاستفتاء لم يكن غير تجديد روتيني للحق المطلق. الشعب أيضاً لم يعتد التفكير في اسم الرئيس. الرئيس كان منحة إلهية أو من أجهزة لها سطوة الكهنة في العقائد القديمة. ولم يكن سؤال: من هو الرئيس المقبل؟ يشغل بال الناس. فالرئيس الراحل يكون قد اختار خليفته بطريقة اختيار الخلفاء في الدولة الإسلامية الأولى. عبد الناصر اختار السادات. وبعد السادات لم ترشح مؤسسات الاختيار سوى مبارك، الذي اختاره السادات، رغم منافسة المشير أبو غزاله.
هل يمكن أن يستقيل مبارك؟ ومن سيضغط عليه ليستقيل؟ أين هي المعارضة القوية؟ وكيف يمكن الاستقالة واللعبة تمت من فترة واستطاع النظام تعديل الدستور ليضمن البقاء للرئيس وخليفته إلى الأبد؟ يعتقد مبارك أنه أنقذ مصر. لم يشعر مرة واحدة بأنه لا يصلح للاستمرار، ولم يفكر مرة في الاستقالة، رغم أن كل المؤشرات تقول إن مصر الآن محبطة وعاجزة وتعاني عدم كفاءة نظامه.
الصحافة رفعت السقف ووصلت إلى حدود شتم الرئيس وعائلته. قد يكون هذا أول خيط في الديموقراطية، لكنه ليس كل شيء. الشتيمة تهز قداسة أعلى رأس في الدولة، لكنها لا تعني تغيير العلاقة بين الرئيس والشعب. تغيير هذه العلاقة خط أحمر. حلم يحتاج إلى ما هو أكبر من الأمنيات والحسرة.
المشكلة ليست في تغيير مبارك بشخص غيره أياً كان: جمال مبارك أو عمر سليمان أو رجل مجهول سيظهر فجأة ليلة اختفاء الرئيس. المشكلة في عقلية القداسة. إنها توكيل أبدي بالرئاسة لن يتخلى عنه إلا بالموت أو المؤامرة.

مفاجأة الشخص الغامض


هل تخفي أميركا رجلاً قوياً سيظهر فجأة ليلة اختفاء مبارك؟ السؤال ليس غريباً. لكنه صادم. يعكس السؤال تصوراً موجوداً بأن مفتاح استمرار نظام مبارك في واشنطن، وهي التي تحمل 99 في المئة من أوراق التغيير السياسي

زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون إلى مصر عام ١٩٧٤ كانت النقطة الفاصلة التي حوّلت أميركا من عدو إلى صديق وحليف. وقتها لم يكن الاندفاع نحو أميركا مجرد رغبات رئاسية (من السادات ثم مبارك) فقط، لكنه أيضاً أحلام شعبية بالتخلص من فقر الحروب، وسياسية بالتخلص من زمن الحزب الواحد والنموذج السوفياتي في الحكم. التحول من عداء أميركا (أيام عبد الناصر) إلى الدوران في أفلاكها (أيام السادات ومبارك) كانت تحكمه عواطف أكبر من المصالح، وشعور قوي بأن علاقة الغرام بين مصر وأميركا هي تذكرة العبور إلى الحياة السعيدة المليئة ببحيرات الكوكا كولا وأشجار الهامبرغر وفاتنات من هوليود تخرج من صناديق التفاح الأميركي.
عداء أميركا كان مشروعاً سياسياً ونظرة (يرى البعض أنّها ضيقة) لمصالح مصر باعتبارها قائدة المنطقة ومحررة فلسطين وشريكة في محاولات البحث عن طريق ثالث بعيداً عن القوتين العظميين وقتها.
لكن الغرام الاضطراري لأميركا لم يكن مشروعاً سياسياً. كان اختياراً «حكيماً» يعترف بالأمر الواقع ويتخلى عن كل مقاومة للمشروع الأميركي. الهروب إلى أميركا كان إعلاناً عن انسحاب روح كبيرة تحلم بعلاقات دولية أكثر عدلاً.
وكما كان التمرد متهوراً، كانت الحكمة مخزية وأدخلت مصر في طابور حلفاء واشنطن. وربما كان السر في التحول من «العدو الكامل» إلى «الحليف الكامل»، هو الذي يوحي بصورة التابع لدرجة أن هناك من يتصور أن مصر تُحكم بتوكيل من أميركا.
في حوار قبل سنتين مع الدكتور جلال أمين، أستاذ الاجتماع والمحلل المهتم بقضايا النظام السياسي في مصر، قال: «إن المعارضة التي تكونت في السنوات الأخيرة تمت بفعل ضغط الأميركيين». ويرى أن النظام ينفذ مطالب أميركا لتوافق على مشروع التوريث. ويؤكد: «هم يعرفون جيداً أنه لا يمكن أن يأتي (جمال) إلا بموافقة الأميركيين. وأميركا لا تريد أن تعطيهم كلمة حتى تحصل منهم على أقصى ما يمكن». جلال أمين ميال إلى أن الأميركيين في النهاية سيوافقون على مشروع جمال مبارك، «رغم أنهم يفكرون في شخص جديد لأن جمال مبارك غير محبوب» شعبياً.
من هو الشخص الجديد الذي تبحث عنه أميركا؟ وكيف ستحشره فجأة في المشهد السياسي؟ وهل هناك صراع الآن يدار في الخفاء للحصول على التوكيل؟ أسئلة غريبة وتنتمي إلى شيء أقرب إلى الميتافيزيقا السياسية وعقلية الخرافة، التي فسرت مثلاً اغتيال السادات على أنه مخطط أميركي للتغيير. والعقلية نفسها ترى أن أميركا يمكنها أن تسقط نظام مبارك في ربع ساعة، عبر تفجير فوضى شعبية إذا نشرت وثائق عن الفساد تحتفظ بها في خزائن خاصة.

مرشح من مطبخ السلطةاسمه حضر بقوة أكثر من مرة، آخرها خلال انتخابات الرئاسة الأخيرة في 2005، حين انتشرت أخبار عن اقتراح من «الإخوان» المسلمين بترشيح أبو غزالة بناءً على اتصالات قام بها أحد قادة الجماعة، وهو في الوقت نفسه على علاقة نسب بعائلة المشير. كما تناولت أيضاً رغبة تيارات سياسية في تبني الترشيح. لكن الحصول على توقيع النواب المنتخبين كان العائق ألذى افسد المحاولات التي كانت تبحث عن رجل قوي وله شعبية في مواجهة مبارك.
المشير ظل صامتاً طوال الوقت، كما هي عادته بعد خروجه من السلطة. لم يعلق على الأخبار ولم يعلن موقفه من الانتخابات التي كانت مناسبة لإعادة فتح ملف أبو غزالة من جديد في الصحافة وفي كواليس السياسة والجيش.
وعاد من جديد الكلام عن قوة نفوذ أبو غزالة في الجيش وعلاقته القوية بأميركا ومساندته لها في الحرب ضد الشيوعية، وهي العناصر التى جعلت اسمه مطروحاً لرئاسة مصر مع مبارك في أعقاب اغتيال السادات.
بعد وصول مبارك إلى الحكم، كان ابو غزالة الرجل القوي في الجيش، وذلك قبل إبعاده إلى منصب شرفي هو مساعد رئيس الجمهورية. والخطوة الثانية كانت إبعاده نهائياً عن دائرة السلطة بتوريط اسمه في فضيحة غرامية بطلتها سيدة مجتمعات من أصل أرمني اسمها لوسي ارتين في مطلع تسعينات القرن الماضي.
ورغم أنه ظل بعيداً طوال الفترة الماضية عن أجواء السياسة، إلا أن اسم أبو غزالة كان على رأس قائمة الشخصيات التى يمكنها منافسة مبارك على مقعد الرئيس، ويمكنها خوض معركة قوية. إنه شخصية من المجال الحيوي نفسه لمبارك (الجيش وأميركا ومطبخ السلطة)، وهي شخصيات لم يعد لها وجود تقريباً اللآن. أشهر اسم من الأجيال التالية هو مدير المخابرات عمر سليمان. وهو ليس منافساً بل امتداد لمبارك. هو الحل المثالي لتحقيق مرحلة توازن عقب اختفاء الرئيس. هو السند العسكري البديل لمشروع جمال مبارك المدني. كلاهما استمرار للنظام، هما وجهان لانقلاب هادئ من دون دماء.
والتحالف بين جمال وسليمان هو منتهى أمل نظام مبارك. تحالف لا يفسده إلا اختلال التوازن في مطبخ السلطة بظهور شخص من المجال الحيوي يطالب بحقه في السلطة.
هل سيتجاوز أبو غزالة الاكتئاب والمرض؟ أم أن له شبيهاً خفياً يمكن أن يلعب على ورقته ويظهر فجأة مثل أبطال السينما؟ سنرى.