أرنست خوريبين ليلة وضحاها، استبدل حكّام دول جوار العراق الكتاب الذي قرأوا من صفحاته مصطلحات التعاطي مع حكّام بلاد الرافدين ما بعد الغزو. عرب وأتراك، كان لكلّ منهم أسبابه الموجبة في عدم الانفتاح على شبه الحكومة الموجودة في المنطقة الخضراء:
طائفيّة الحكومة واستبعادها لشريحة واسعة من الشعب انتقاماً من معطى تاريخي حكم بلاد الرافدين زمن صدّام حسين. اعتبار تحالفها مع إيران نوعاً من التبعيّة. غياب الأمن. خوف من الحالة الكرديّة المزدهرة والمتوسّعة على جميع الجبهات...
الحصيلة منذ 2003، مقاطعة مهينة لحكومات أياد علاوي وإبراهيم الجعفري، وصلت إلى ذروتها مع نوري المالكي؛ لا بحث في إلغاء الديون المستحقّة على العراق. لا تفكير بإعادة أموال صدّام وحاشيته إلى بغداد. لا تطبيع دبلوماسياً. لا زيارات رفيعة إلى عاصمة الرشيد. لا بحث في سياسة مائيّة موحّدة مع الجار المحتلّ. لا دعوات إلى المالكي. لا مساهمة في «المصالحة الوطنيّة» عبر ضغط على العشائر والعرب السنّة. لا تعاون أمنياً عبر التشديد في إقفال الحدود أمام المجاهدين الأمميّين، ما جعل مؤتمرات «جوار العراق» مضيعة للوقت ومناسبة لسوق الاتهامات إلى حكومة المالكي.
ما الذي تغيّر لينقلب المشهد، وتكرّ سبحة الزيارات البغدادية وتسميات السفراء، من الأردن والبحرين والإمارات وتركيا وقريباً الكويت؟
المقاطعة، كما الانفتاح، كانت وستبقى قراراً سيادياً يتعلّق أولاً بالدور الأميركي المطلوب عربياً في العراق، وبجدليّة العلاقة العراقية ـــــ العربية ـــــ الإيرانيّة ـــــ الأميركية التي تأخذ من بلاد الرافدين ساحة مواجهة متقدّمة حيناً، أو تهدئة حيناً آخر.
يمكن القول إنّ إدارات جورج بوش سبّبت لعواصم «المعتدلين العرب» نكسة كبيرة منذ الأيّام الأولى لاحتلال العراق بغطاء عربي. كان الاتفاق يوجب حصول خلاف ما حصل. فبدل أن يستبدل صدام حسين بحكومة صديقة تُبقي العراق جداراً عازلاً بين تلك العواصم والعملاق الإيراني، جاء الجعفري منذ عام 2005 وبعده المالكي ليفرشا الأرض وروداً تحت أقدام «الفرس» وحلفائهم، على الأقلّ برضى أميركي، على حدّ تعبير أدبيات حكام الرياض وأبو ظبي والكويت...
وبدل أن يكون العراقي السنّي موجوداً بثقله في تقاسم مناصب الحكم الجديد، هُمِّش من هُمِّش أو استُبعد أو دُفع إلى الاعتكاف في مشهد عبّرت عنه خير تعبير نسب المشاركة العربية السنيّة الضئيلة في الدورات الانتخابية الثلاث، والتي بلغت حد المقاطعة.
اليوم، وقد دخلت الإدارة الأميركية للعراق عامها السادس، يمكن ملاحظة تغيُّر في عدد غير قليل من المعطيات؛ فالطرف الأميركي فهم منذ فترة، أنّه أخطأ حتّى يوم القيامة في تركيبه للبازل العراقي. فهم حدود قوّته ونفوذ حلفائه. أدرك أنه لن يكون باستطاعته مواجهة القوة الإيرانيّة الجارفة في العراق بالمواجهة. والأهم، اقتنع أنّه بسكوته عن «الانتقام» الذي مُورِسَ بحق العرب السنّة، أضرّ بحلفائه في المنطقة وسبّب لهم أوجاع رأس من النوع الذي يحرّك الخلايا الجهاديّة النائمة على أراضيهم انتقاماً لأشقّائهم.
اليوم تبدو الظروف الداخلية العراقية والأميركية مؤاتية جدّاً للعرب لكي يغيّروا من قواعد سلوكهم تجاه العراق: أُقرّ عدد كبير من القوانين التي يُقال إنها تضمن للعرب السنّة استرداداً لبعض حقوقهم ومناصبهم. كذلك فإنّ شريكاً سنّياً جديداً حجز مكانة لنفسه في العملية السياسية، وهو «مجالس الصحوات». أضف أنّ البلاد تقف على أعتاب انتخابات محليّة مقبلة، مرشّحة لإعادة تكوين السلطة (تحت جناح وشروط الاحتلال طبعاً) وإعادة رسم خريطة سياسية جديدة لا مصلحة للعرب أن يغيبوا عنها.
وفي واشنطن، ستحلّ إدارة جديدة مكان رموز لم يحسنوا لا التعاطي مع الحالة العراقيّة، ولا مع جيران هذا البلد. إدارة مقبلة يأمل حكّام الخليج أن تكون كلّها على صورة ومثال وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، صاحب الدور الأكبر في الدفع نحو تصحيح خطايا بول بريمر وديك تشيني ودونالد رامسفيلد.