غزّة تحت الحصار. عنوان عام لأشهُر من الحرمان من المفترض أنه يشمل مليوناً ونصف مليون فلسطيني. إلا أن التفاصيل عادةً ما تكون مغايرة للواقع العام. للحصار قسوة تختلف بين فئة وأخرى، لتظهر في النهاية أن الفقراء أكثر المتضرّرين منه
حسام كنفاني

عام على الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة. لا شيء تغيّر رغم اتفاق التهدئة بين الدولة العبرية وحركة «حماس». لا يزال الغزاويون يحفون وراء لقمة عيش بات العثور عليها مضنياً. عام كان كفيلاً بزيادة معدلات الفقر في القطاع الفقير أساساً. لم يعد للعمل فرصة، بات البحث عن عمل هو السبيل الوحيد لمئات الشبان.
كم من البؤس دفع جمعيات حقوق الإنسان في العالم إلى إطلاق وصف «الكارثة» على الوضع الإنساني في القطاع، حيث بات الموت أمنية لكثير من المرضى، الذين ما عادت سبل العلاج تصل إليهم، سواء لقصور مادي أو لغياب المستلزمات بفعل الحصار، الذي حوّل غزّة إلى «السجن الأكبر في التاريخ»، بحسب وصف أكثر من خبير أممي زار القطاع لمعاينة المأساة عن كثب.
وسط هذا البؤس العام، كان ولا يزال هناك استثناءات. قادة وأفراد حوّلوا الحصار إلى مادة كسب تحقّق ثروات طائلة. قادة وأفراد لم يكن للحصار أثر عليهم، سواء بفعل ارتباطات داخلية أو تنسيق خارجي عبر حدود قطاع غزّة مع مصر أو خطوطه مع الدولة العبرية.
الحصار لم يكن شاملاً. هناك محظيون قادرون على تأمين حياة شبه طبيعية في ظروف أبعد ما تكون عن الطبيعية. محظيون ليسوا حكراً على حكام غزّة الجدد، أي قادة حركة «حماس»، الذي استخدموا وسائل شتى لتأمين ما كان ينقصهم. الحكام القدماء، أي حركة «فتح»، كانت لهم أساليبهم أيضاً في خرق الحصار، الذي بقي محصوراً في فقراء القطاع الذين لم تكن لديهم ارتباطات «حمساوية» أو «فتحاوية».

«فتح»: تنسيق الدخول والخروج

منذ انسحاب المراقبين الأوروبيين من معبر رفح بعد عملية الحسم العسكري لـ«حماس» في قطاع غزة، بات الخروج من القطاع أمراً شبه مستحيل. وعمليات الخروج والدخول العلنية من الممكن عدها على أصابع اليد الواحدة، ولا سيما أنها كانت تجري بالتنسيق بين مصر وإسرائيل، وفي الغالب لغايات تفاوضية سواء للتهدئة أو لصفقة إطلاق الجندي الأسير جلعاد شاليط.
هذا كان في العلن، إنما أحداث السر كانت مختلفة تماماً. المعابر لم تكن مغلقة في الكامل بوجه العديد من القادة الفلسطينيين، ولا سيما القادة التابعين لحركة «فتح»، الذين لم يكونوا يخرجون من معبر رفح بالتنسيق مع قوات الأمن المصرية فقط، بل كانوا يستخدمون معبر بيت حانون (إيريز) أيضاً لتأدية مهمات في الضفة الغربية والعودة لاحقاً.
الأمر لم يكن حكراً على «الفتحاويين»، فكثير من الشخصيات والتجار المقرّبين من الحركة كانوا يلقون المعاملة نفسها على المعابر، وبالطبع بالتنسيق من سلطة رام الله.
رجل التنسيق مع الإسرائيليين سواء لمعبر إيريز أو رفح يدعى حسين شيخ. يحمل اليوم صفة أمين سر حركة «فتح» في الضفة الغربية، أو هكذا يحب التعريف عن نفسه، رغم أنه لم يعيّن أمين سر بعد اعتقال القيادي «الفتحاوي» مروان البرغوثي، الذي كان يحمل رسميّاً هذه الصفة.
يتمتع الرجل بعلاقات قويّة جداً مع الإسرائيليين، وقد ازدادت عقب سيطرة «حماس» على غزة وتوليه ملف الشؤون المدنية. وللراغبين بالعبور إلى الضفة الفلسطينية الأخرى ما عليهم إلا الاتصال بحسين الشيخ، الذي يؤمّن التنسيق مع سلطات الاحتلال أو الأمن المصري ليكون الاسم المطلوب بعد ساعات لدى سلطات المعابر.
وتؤكّد مصادر فلسطينية مطلعة أن مئات الأشخاص مروا بهذه الطريقة في أعقاب الحسم العسكري. وتشير إلى أنه جرى نقل عائلات «فتحاوية» بأكملها في الأشهر الأولى التي تلت الحسم، وحتى ما بعد ذلك بناءً على رغبة سلطة رام الله. وتوضح المصادر أنه رغم تفرّد حسين الشيخ بهذا الملف، إلا أنه لم يكن يسمح بالمرور إلا للأشخاص الذين ترغب قيادة السلطة الفلسطينية بإمرارهم.
وفي واقعة، قد تكون الأبرز، لعمليات فتح المعابر بأمر من رام الله، خرج عشرات التجار والمستثمرين من قطاع غزة في أيار الماضي للمشاركة في مؤتمر الاستثمار الذي نظمته اللجنة الرباعية الدولية في بيت لحم. وتؤكّد مصادر أن مجموعة منتقاة من التجار ورجال الأعمال فقط تمكنت من العبور للمشاركة في المؤتمر. وتشير إلى أن عملية النقل الجماعي للتجار ورجال الأعمال استثنت كل من يشتبه بولائه أو قربه من حركة «حماس»، وحصرته بكل من هو معروف بولائه للرئاسة و«فتح».
ويؤكّد أكثر من مراقب أن معبر إيريز لم يكن مغلقاً بالمعنى الحرفي للكلمة، بل كان ساحة لابتزاز من يريد السفر عبره سواء لمصالح شخصية أو مالية. ابتزاز احترفه الشيخ من خلال موظفي وزارة الشؤون المدنية.

«فتح» والوقود

للوقود حكاية أخرى في قطاع غزة. من المعلوم أن ندرة المحروقات، وخصوصاً البنزين والمازوت، أعادت القطاع عشرات السنوات إلى الوراء مع اختفاء معظم السيارات من الطرق، والاستعاضة عنها بالدواب وغيرها من وسائل النقل المتوافرة.
إلا أن سيارات فارهة كانت لا تزال تجوب شوارع القطاع، وتثير استغراب العديد من السكان. استغراب من الممكن أن يزول مع معرفة أصحاب هذه السيارات وارتباطاتهم؛ فالعديد من القادة «الفتحاويين» كانوا فوق حصار المحروقات، وكان بإمكانهم تأمين الكمية التي يريدونها بمجرّد اتصال هاتفي.
وتشير المصادر إلى أن رئيس هيئة البترول في رام الله، مجاهد سلامة، بإمكانه الإيعاز لأي شركة أو محطة بنزين للتصرف بأي كمية من الوقود بمجرد اتصال هاتفي، وخصوصاً أن أصحاب الوقود يتصرفون بمخصصات لمعارفهم ودوائرهم.
وتؤكّد المصادر أن الأمر لا يتم بتنسيق مباشر مع حركة «حماس»، لكن بعلمها. إذ إنه من غير الممكن ألّا تكون الحركة الإسلامية على دراية بما يدور على الأرض التي تسيطر عليها. فالحركة ألّفت لجنة لمراقبة الأسعار ومنع الاحتكار، إلا أنها لم تحقّق في كيفيّة تمكن سيارات رباعية الدفع وأخرى بمحركات كبيرة من العمل في القطاع، فيما وصلت نسبة السيارات المتوقفة إلى أكثر من 80 في المئة بسبب عدم تمكن أصحابها من الحصول على الوقود.

«حماس» ورفح

لم يكن لحركة «حماس» سلطة مباشرة على معابر القطاع، سواء مع مصر أو إسرائيل. ومن المعلوم أن الحركة لم تدخل يوماً في لعبة التنسيق الأمني المباشر، على الأقل مع سلطات الاحتلال، إلا أن هذا لم يمنع استغلالها في فترات متقطعة للسلطات على المعابر حين تتاح لها الفرصة.
قبل إبرام اتفاق التهدئة في قطاع غزة، كان لحركة «حماس» فرصة السيطرة على معبر رفح، الذي فتحته سلطات الأمن المصرية لثلاثة أيام متتالية، عدّت تجربة لإمكان إدارة «حماس» للمعبر بعد التهدئة.
كان من المفترض أن تكون أيام فتح المعبر مخصّصة لمرور المرضى والحالات الخاصة والمستعجلة، إلا أن ما حدث كان على عكس ذلك. وتؤكّد مصادر مطلعة أن عناصر «حماس» يقومون بممارسات كالتي كانت تقوم بها «فتح» إبان سيطرتها على قطاع غزة ومعابره.
وتشير المصادر إلى أن «تجاوزات كبيرة جداً شهدتها أيام فتح المعبر». وتوضح أن «الأيام الثلاثة كانت مخصصة للمرضى في اليوم الأول والعالقين في اليوم الثاني والطلبة في اليوم الثالث، إلا أن ما حدث أن كثيراً من المسافرين لم يكونوا من هذه الفئات».
وتضيف المصادر «في النتيجة، كان من المفترض أن يغادر ألف مريض في اليوم الأول لضرورة العلاج في الخارج، لكن 200 فقط تمكّنوا من السفر بسبب الواسطة والمحسوبية لمصلحة أشخاص آخرين على القوائم».
ولم تستبعد المصادر أن تكون الممارسات إبان عهد «فتح» قد عادت في الأيام الثلاثة إلى المعبر عبر دفع رشى للتمكن من المرور إلى الجانب المصري، مشيرة إلى أنه في «عهد فتح كان المسافر يدفع 100 دولار في الحد الأدنى من أجل ضمان المرور».
قيادة «حماس» هذه المرة أيضاً لم تكن بعيدة عما جرى على المعبر. وتشير المصادر إلى أن حكومة رئيس الوزراء المقال، إسماعيل هنيّة، ألّفت لحنة للتحقيق في التجاوزات، إلا أن أي نتائج لم تصدر عنها، رغم تأكّدها من التجاوزات.

«حماس» والأنفاق

من المعلوم أن الأنفاق الواصلة بين الأراضي المصرية وقطاع غزّة كانت الوسيلة المثلى للغزّاويين لكسر الحصار. إلا أن الكثير من عناصر «حماس»، وبينهم مسؤولون في «كتائب عز الدين القسّام»، استغلوا الأمر بغرض التجارة والربح. وتشير مصادر مطلعة إلى أن «معظم الأنفاق الكبيرة والفاعلة المخصصة للتهريب عبر الحدود تتبع لعناصر من حماس الذين يؤمّنون الحماية للحفر وعمليات مرور البضائع».
وتضيف المصادر إنه في الآونة الأخيرة جرى تركيز عمليات التهريب على الوقود، بعد تقليص كميات الوقود الداخلة إلى قطاع غزة وانقطاعها في كثير من الأحيان. وتتابع أن عمليات البيع بعد التهريب كانت تجري عبر عناصر الحركة الإسلامية أو مقاوميها وبأسعار خياليّة. وتوضح أن سعر ليتر البنزين الرسمي في القطاع محدّد بـ 5.6 شيكل، (الدولار يساوي 3.35 شيكل)، إلا أن ليتر الوقود المهرّب يباع بـ50 شيكلاً.
وحتى في ظل حال التهدئة، لم تتوقف عمليات البيع في السوق السوداء، وإن اختلفت الأسعار، وخصوصاً بعد دعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى الحوار الداخلي، وعودة الهدوء النسبي إلى غزة. وتشير المصادر إلى أن الليتر المهرّب وصل اليوم إلى نحو 25 شيكلاً. عمليات التهريب والبيع في السوق السوداء لا تجري في العادة بعيداً عن أعين قادة «حماس» في قطاع غزة، الذين يغضّون الطرف عن مثل هذه العمليات، وخصوصاً أنهم على علم بالسوق السوداء الرائجة في القطاع.
فالحركة الإسلاميّة، بحسب أكثر من مصدر، تستخدم الأنفاق لإمرار أموال المساعدات الخارجية التي تصلها، وخصوصاً من جماعة «الإخوان المسلمين». كما أنها تشارك في عمليات البيع في السوق السوداء عبر فرض غرامة على البضائع المهرّبة من دون سند قانوني. وتراوح الغرامة بين شيكل وعشرة شيكلات، حسب نوعية البضاعة وأهميتها. غرامة مثّلت مصدر دخل لخزينة حركة «حماس» والحكومة المقالة، رغم أن آلية دخول هذه الغرامات أو الضريبة إلى الخزانة العامة غير معروف.

«حماس» والوقود

يعدّ الوقود في قطاع غزة من أكثر السلع المطلوبة لدى جمهور الفلسطينيين، باعتباره جزءاً أساسياً من أي محاولة للحصول على لقمة العيش في ظل الحصار. ومع تقليص كميات دخول هذه السلعة إلى القطاع، وارتفاع أسعار الأصناف المهرّبة منها، لم يعد أمام المواطن العادي إلا انتظار الفرج عبر الشراء بالسعر الرسمي.
إلا أن الشراء بالسعر الرسمي يكاد يكون شبه مستحيل، وخصوصاً أن الكميات الواردة إلى القطاع تختفي قبل طرحها في الأسواق المحلية. فمع دخول المخصصات إلى القطاع، تُقتطع منها حصصّ للوزراء والمسؤولين ووزارة الصحة والشرطة والأمن. وفي العادة، تكون الحصّة الأكبر للحكومة ومرافقها، ليوزّع ما يبقى على المحطات الكبرى، التي تقوم بدورها باحتكاره وتخصّصه للمقربين والمدعومين سياسيّاً، ولا يُطرح للمستهلك.
حكومة «حماس» سعت في إطار «المحافظة على الشفافية» إلى تأليف لجنة لمراقبة الأسعار ومنع الاحتكار. إلا أن اللجنة لم يكن لها أي وجود ملموس على أرض الواقع، ولم تسجّل الأشهر الماضية أي إجراءات فعلية لمحاربة الاحتكار، وهو ما فسرته بعض المصادر بأن الحركة «ليست راغبة في الدخول بمواجهة مع المتموّلين والميسورين في القطاع». وتشير مصادر إلى أن مخصصات الحكومة المقالة توزّع على قطاع من الصحافيين وأصحاب السيارات المرخصة لدى الحكومة المقالة. فالعديدون من أصحاب السيارات في غزة آثروا عدم ترخيص سياراتهم بانتظار عودة «الشرعية» الممثّلة بسلطة الرئيس أبو مازن، وهو ما دفع «حماس» إلى إغراء أصحاب السيارات بمخصصات وقود. إغراء نجح إلى حد كبير، فالكثير من أصحاب السيارات العمومية عمدوا إلى الترخيص للحصول على مخصصات الوقود، ما مثّل رافداً مهمّاً لخزينة الحكومة المقالة.
كما أن للمحسوبين على الحركة الإسلامية حصة من الوقود بسعره الرسمي، ويكفي المرء في غزة أن يكون على علاقة صداقة أو قربى مع أحد قادة «حماس» أو مسؤولي الحكومة، لتفتح له جنّة المخصصات ويؤمّن له الكثير من المستلزمات، التي عادة ما تكون مفقودة في الأسواق بالنسبة إلى المواطن العادي.
قصة الحصار لم تنته. والجوع لا يزال حاضراً في كثير من البيوت الغزاوية، التي لا يملك أصحابها سنداً «حمساوياً» أو «فتحاوياً». حصار لا شك يؤثّر على الجميع في قطاع غزة، لكن طعمه يختلف بين فئة وأخرى، والفقراء يحتكرون مرّه.


«جمهوريّة الأنفاق»

تعدّ مدينة رفح في جنوب قطاع غزة المقصد الأول للمهرّبين وتجّار السوق السوداء، فهي تحتضن مئات الأنفاق الواصلة بين القطاع والأراضي المصرية، التي تمرّر عبرها مختلف البضائع المفقودة في الأسواق الغزاوية.
«جمهورية الأنفاق»، هكذا يطلق الكثير من الفلسطينيين على مدينة رفح. اسم قد يكون على مسمى، ولا سيما أنه لم يعد هناك مكان الآن لحفر المزيد من الأنفاق في أراضي رفح، ما يدفع الكثير من الساعين إلى الثروة إلى البحث عن مناطق أخرى تكون مناسبة لفتح طريق تهريب جديد.
تضمّ رفح أطول الأنفاق على الإطلاق، ويراوح طولها بين 300 متر إلى كيلومتر واحد، ويستغرق العمل فيها أشهراً. وتحوّلت الأنفاق نفسها في الآونة الأخيرة إلى مصدر استرزاق في رفح، إذ تبلغ كلفة الحد الأدنى للحفر 10 آلاف دولار والحد الأقصى 30 ألف دولار. وتعتمد كلفة النفق على الطول والعمق ونوع التربة. وعادةً ما يكون العمال شركاء بالجهد والحفر. أمّا ملكية الأنفاق فتعود في معظمها إلى عائلات كبيرة ومتنفّذة في رفح وعناصر من «حماس».