عبد الحليم فضل الله يُعدّ النمو الاقتصادي في نظر كثيرين حلاً لمشكلات لبنانية مستعصية، وخصوصاً مشكلة الفقر التي يخفف منها «تقاطر آثار النمو» أو ما يُعرف باقتصاد التداعيات، ومأزق الدين العام الذي تخفف من حدّته زيادة الناتج المحلي بأسرع من زيادة المديونية.
ويعود النجاح النسبي الذي حققه الاقتصاد اللبناني في فترة ما قبل الحرب الأهلية، إلى نسب النمو الجيدة التي استمرت حتى أواسط السبعينيات، لكنها لم تكن كافية لتحقيق ما يوصف بالمعجزة اللبنانية، فالتدقيق في النتائج التي تحققت في الفترة 1953ـــ1974 تظهر أن نسب النمو الحقيقي المقدرة بحوالى 6.25% كانت أقل من المعدل الوسطي للدول النامية، وأدنى من المعدلات المطلوبة لنقل لبنان إلى مصاف الدول السائرة في طريق التصنيع. وعلى العموم، يمتلك لبنان قابلية جيدة لتحقيق نمو ثابت ومستمر، توفرها عناصر عدة: براعة القطاع الخاص، ونظام تعليمي منفتح وقادر على التكيف، وتشريعات اقتصادية ملائمة نسبياً، وتيار مالي متدفق من الخارج. وقد ساهمت هذه العوامل مجتمعة في تحقيق موجات انتعاش متقطعة، أهمها على الإطلاق تلك التي حدثت في السنوات الخمس قبل الحرب الأهلية وفي السنوات الخمس التي تلتها، حين بلغت معدلات النمو 9% و10.5% على التوالي. مع ذلك لم يمتلك لبنان حينها اقتصاداً حديثاً له قاعدة إنتاجية صلبة، ولم يعرف نمواً قوياً يستمر لفترات طويلة، وفي الغالب كان المردود الإيجابي للنمو محدوداً ومؤقتاً، ففي سنوات الوفرة من القرن الماضي مثلاً، حصل توسع اقتصادي ملحوظ، كانت نتيجته مضاعفة الدخل الفردي الحقيقي ثلاث مرات تقريباً بين عامي 1953 و1974، وزيادة مماثلة في الاستهلاك، لكن تأثيره كان ضعيفاً على معدلات الادخار والاستثمار التي نمت بمعدلات بطيئة قياساً إلى متطلبات تطوير قاعدة الإنتاج. هناك عقبات تتسبب في نشوء معضلة النمو، فتحول دون ثبات معدلاته واطرادها، وتمنع الاستفادة منه للصعود إلى مرحلة أعلى في سلّم التنمية.
العقبة الأولى هي التركيبة غير المتوازنة للاقتصاد اللبناني، بل إنها الأقل توازناً من بين الاقتصادات العربية، فبحسب تقديرات اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لغرب آسيا، فإن حصة قطاع الخدمات من الناتج المحلي القائم في لبنان هي الأكبر في مجموعة الإسكوا، إذ تتراوح هذه الحصة بين 58% للأردن و48.5% لسوريا، في مقابل ما لا يقل عن 70% للبنان، وحتى لو صححنا الأرقام باستبعاد قطاع النفط، يظل لبنان صاحب أكبر قطاع خدمات قياساً إلى ناتجه. هذا الانحياز للخدمات يخفض قدرته على التصدير ويزيد من كلفة الإنتاج بسبب الاعتماد الكثيف على السلع الوسيطة المستوردة.
العقبة الثانية، هي التأثيرات المتضاربة للأموال والتحويلات الآتية من الخارج. صحيح أنها ساعدت على رفع مستوى الناتج الفردي ليكون في لبنان الأعلى بين الدول العربية غير النفطية، لكنها أخلّت باستقرار الأداء الاقتصادي، وشجعت الأنشطة الاقتصادية التي لا يمكن تبادل منتجاتها دولياً، وربما ساهمت في خفض الإنتاجية. وبخلاف ما هو شائع، فإن تحويلات المغتربين هي ظاهرة حديثة نسبياً، ولم تتجاوز في الفترة 1951ـــ1969 نسبة 3.8% من الناتج، وأخذت تزداد مع بداية السبعينيات لتحقق ما لا يقل عن 45.5% من الناتج في الفترة 1977ـــ1983، وهي الآن تمثّل ربع الدخل الفردي، ومسؤولة عن تغطية المديونية المرتفعة للأسر. وبنتيجة الخلل في تركيبة الناتج، والآثار الضارة للتحويلات، نشأت عقبة ثالثة هي الأخطر أمام النمو، تتمثل في عجز الميزان التجاري الكبير والمزمن. مثّل هذا العجز 37.5% من الناتج المحلي في خمسينيات القرن الماضي، ثم ارتفع إلى حوالى 50% للفترة 1960ـــ1975، ويتوقع أن يصل هذا العام إلى 44%. وبينما كانت الصادرات قادرة على أن تغطي 63.3% من الواردات عشية الحرب الأهلية حسب صندوق النقد الدولي، انحدرت هذه النسبة إلى أقل من 20% في التسعينيات، ولا تزيد الآن عن 24%. ولا ينبغي النظر إلى العجز التجاري الضخم بمعزل عن العوامل التي تتسبب به، فهو حصيلة اختلالات أساسية أخرى، منها ضعف القاعدة الإنتاجية وسوء توزيع الموارد والفشل في وضع إطار عام للاستثمارات العامة والخاصة، لكن بوسعنا أن نستنتج ببساطة أنّ عجزاً تجارياً في حدود مقبولة (10% من الناتج مثلاً) كان من شأنه السماح بتحقيق نسب نمو مضاعفة.
إن تحقيق نمو مرتفع كالذي يتكرر الحديث عنه، يتطلب تخطيطاً جيداً، لا يقف عند مسألتي استيعاب الدين العام واستكمال المشروعات العامة. بل يتعداهما إلى إزالة العقبات التي تحول دون تحقيق نمو مرتفع ومتواصل. وفي إطار خطة وطنية شاملة فقط، يمكن حل التضارب بين هدفي معالجة أزمة المالية العامة وتعزيز النمو، ومعالجة التباين وأحياناً التناقض بين أهداف السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية.
إنّ مراجعة تجربة التخطيط في لبنان هي أمر حيوي للمستقبل، المقارنة المعبرة هنا هي بين الخطة الخماسية 1964ـــ1968 وخطة النهوض الاقتصادي عام 1991، فالأولى تضمنت أهدافاً تتصل بتطوير قطاعات الإنتاج، بينما تركت الثانية هذه المهمة في عهدة القطاع الخاص، وأعفت الدولة من أية مسؤولية في هذا الصدد.
يدعو بعض أطراف السلطة إلى أن يعود لبنان إلى دوره السابق، ويفوت هؤلاء أن اقتصاده كان قد بدأ يتحول إلى اقتصاد منتج وقادر على التصدير والمنافسة، أحبطت الحرب الأهلية هذا التحول، وبعد أن انتهت خسرنا فرصة أخرى لنقاش جدي بشأن مستقبل الاقتصاد الذي نريد، وبدلاً من أن يكون السؤال حينها: كيف يمكن بناء اقتصاد منتج ومنافس ويؤمن نمواً متواصلاً؟ كان سؤالنا أو السؤال الذي فرض علينا: كيف نجدد دورنا السابق؟ وبدلاً من أن نمضي قدماً علقنا في دروب الماضي المقفلة.