strong>هل يجب أن يرتكز حجم موازنة الإدارات على الحاجات أم القدرات؟ وهل تحديد سقف الاعتمادات يلجم الفساد؟ أم أن الفساد في لبنان لا يمكن لجمه؟

أيمن فاضل

«تقدمت إدارتان مختلفتان إلى ديوان المحاسبة بمعاملتين رسميتين، لسلعة واحدة، ووصل الفرق في سعر هذه السلعة بين المعاملتين إلى 3 أضعاف، ولم يحرك الديوان ساكناً»، هذا المثال، رأت فيه رئيسة مديرية الصرفيات في وزارة المال، عليا عباس «حالة مستفحلة»، مشيرة إلى أن «مزارب» الهدر لا يقف عند هذه الحدود، لأن هناك كماً ضخماً من الموظفين في القطاع العام تصلهم رواتبهم إلى منازلهم من دون أن يزاولوا عملهم، متسائلة عن اسم هذه الحالة وتوصيفها، وهل يمكن وصفها بغير الفساد؟
كلام عباس أتى خلال مداخلة ألقتها في الحلقة التي أقامها المعهد المالي ـــ معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، تحت عنوان «قراءة في تعميم مشروع موازنة سنة 2009»، وهي ثاني حلقة من سلسلة حلقات ينظمها المعهد عن «مواكبة تحديات الإصلاح في آلية الموازنة العامة في لبنان»، وقدّم رئيس الشعبة الإدارية في أمن الدولة الرائد عامر الميس خلال الندوة دراسة بعنوان «أسس ومبادئ إعداد مشروع الموازنة في المديرية العامة لأمن الدولة»، متحدثاً من خلالها عن الأسس التي تعتمدها المديرية العامة في إعداد مشروع موازنتها، وبينها، من ترقيم صفحات مشروع الموازنة وتنظيم فهرس لها وتجليدها، وتنظيم جدول مقارنة لكل البنود التي تمت زيادة أو خفض اعتماداتها، وذلك لتمكين القيمين على مناقشة الموازنة من الولوج بسرعة إلى الجداول، لافتاً إلى أن المديرية تلتزم طلب الاعتمادات بكل شفافية، وذلك من خلال توفير الحد الأدنى الضروري لتسيير عمل الإدارة.
هذا التوجه لدى المحاضرين نحو القول بأن «القدرات هي التي تحدد توزيع الموازنة»، أثار موجة من الردود، التي رأت أن الحاجة هي التي تحدد الموازنات، لا الإمكانات. وانتقد بعض الحضور اعتماد التوازن بين الإدارات في الميزانيات، لا اعتماد الطريقة التي توفر العدالة الاجتماعية، فيما حاول القاضي المتقاعد في ديوان المحاسبة ديب راشد التوفيق بين الذين يرون أن الأولوية للحاجات والذين يرون أن القدرات هي التي تحدد حجم الميزانية لكل إدارة، فقال إن الميزانية ستكون حسب القدرات، لكن ذلك لا يمنع وجود العديد من المصروفات تتجاوب مع الحاجات.
وعن تأثير السياسة على رسم الميزانية، وتأثير الفساد والنفوذ السياسي على عمل الإدارات، رأى العديد من المشاركين أن العقبة الأساسية في قيام ميزانية توفّق بين الحاجات الحقيقية والقدرات تكمن في التدخلات السياسية، فقال مدير الموازنة وعقد النفقات في وزارة المال، إلياس شربل إن الموازنات التي تقر في مجلس النواب تخضع لتأثير وضغوط سياسية، مشيراً إلى أن هذا التدخل يؤدي إلى نزف في كل الإدارات، ملاحظاً أنهم في سنة معيّنة حددوا سقفاً منخفضاً يصل إلى النصف لموازنة وزارة الشؤون الاجتماعية، مشيراً إلى أنه كان معقولاً وجيّداً ومبنياً على دراسة، لكن التدخلات السياسية أدّت إلى إعادة رفعه، معلقاً على ذلك بالقول: «إنها وزارة منافع»، مشيراً إلى أن هذه الوزارة لا تحتاج إلى هذا الحجم من الميزانية فعلياً. وكشف شربل عن أن تحديد سقوف موازنات الإدارات خلال السنوات المقبلة بعد إقرارها في مجلس الوزراء سيكون ملزماً ولن يكون مجرّد إبداء رغبة من هذه الوزارات بالتقيّد بهذه السقوف. أمّا مدير المحاسبة العامة، أمين صالح، فرأى أن الموازنات التي تقر في مجلس النواب ليست ما ينفذ غالباً، ملاحظاً أن الموازنات التي تعتمد لا تعكس الوضع المالي الحقيقي للدولة.
هذه الانتقادات، على لسان كبار الموظفين، لنمط اعتماد الميزانيات، والتركيز أكثر من مرة على أن التدخلات السياسية هي التي تحدّ من قدرتهم على ضبط النفقات واعتماد مبدأ حاجات كل إدارة لا قدرة الدولة على توفير الطلبات، هذا ما دفع برئيس قسم التخطيط في المستشفى الحكومي محمد الشريف إلى القول إن المشكلة بنيوية في لبنان، لأنه إذا مُسحت ديون لبنان فستعود إلى التراكم في غضون ساعات، مشيراً إلى أنه لم يعد يتقيد بالموازنات المطروحة التي لا توفر الحاجات، ذاكراً مثالاً على فتح اعتماد على مسؤوليته الشخصية لتوفير عقاقير لحفظ أعضاء متبرَّع بها، لأن ديوان المحاسبة رفض صرف النفقة، مع أن هذه الأعضاء يمكن أن تؤدي إلى إنقاذ حياة العديد من الأشخاص، مشيراً إلى أن تصرفه لم يكن قانونياً وأنه تحمّل مسؤولية مخالفة القوانين لأن منع فتح الاعتماد تصرف غير إنساني، فما كان من القاضي المتقاعد في ديوان المحاسبة ديب راشد إلاّ أن قال إنه سيقبل بهكذا معاملة، وإن توافرت النفقة بأسلوب غير قانوني محاولاً تغطية التقصير في تقصي ديوان المحاسبة عن ضرورة صرف النفقة من عدمه.
وعن إمكانات تحسين الميزانية العامة، وإمكان توفير الميزانية على أساس الحاجات، ركّزت بعض المداخلات على ضرورة تنظيم الضريبة ورفعها، فما كان من صالح إلا أن قال إن الكلام عن رفع الضريبة غير وارد، لأن هذا المنطق يطرح الضريبة كأنها عبء على الفقراء وحدهم، مشيراً إلى أن كبار المتمولين يتهربون من دفع الضرائب، متسائلاً عمن يحمي هؤلاء من تطبيق القانون عليهم وحدهم، لافتاً إلى أن تحسين مدخول الضريبة يكون بفرض رقابة صارمة على الأغنياء والمتمولين لجهة تهربهم من الضريبة لا زيادتها فقط على الفقراء.