strong>رجال الدين هم حكام الشوارع. كلمتهم هي العليا، ونجوميتهم تتفوق على رؤساء الأحزاب. السلطة تنعش مؤسستها الدينية كلما احتاجت إلى صك شرعية صغير، وغالباً يشحن هذا المناخ أجيالاً جديدة فيخرّج قتلة باسم الله
وائل عبد الفتاح

الدين والفساد تحت سقف واحد

غادرت الفتاة قاعة السينما بطريقة عصبية لافتة للنظر، بينما كان الفيلم في مشهده النهائي. الفتاة محجبة والفيلم هو «حسن ومرقص» بطولة النجمين الكبيرين: عادل إمام وعمر الشريف. ويحكي قصة مسلم ومسيحي، اضطر كل منهما للتخفي في هويّة دينية أخرى هرباً من ملاحقات المتطرفين.
تخفّي المسلم في قناع المسيحي والعكس صنع مفارقات أضحكت الصالة، لكنها مسّت الأعصاب الحساسة حينما اكتشف كل بطل مراكز التطرف بين أهل ديانته الأصلية. وانتهى الفيلم بمشهد حرب طائفية تخرج من بين أطلالها عائلتا حسن ومرقص يداً بيد رغم ضربات السكين التي أصابت كلاً منهما.
الفيلم يشبه حملات التوعية السياسية، إذ إن الدراما خافتة في الخلفية، ولم تستطع تخفيف جفاف الرسالة بحكاية تمرر الوعي الجديد الذي تريد الدولة نشره. هذه النوعية من الحملات لم تعد رائجة بعد نضوج المجتمعات الحديثة. لكن «حسن ومرقص» في مصر حدث كبير، ميزانيته غير مسبوقة، والدعاية حوله ضخمة تعتمد على اسم عادل إمام وعمر الشريف. كما كان جزءاً من الدعاية اعتراض الكنيسة على ظهور عادل إمام في دور رجل الدين المسيحي. الفيلم دخل بقوة على سجال العلاقة بين المسلمين والمسيحيين، وهذا ما دفع الفتاة إلى الانسحاب العصبي، ربما لأنها فوجئت بأن السينما تساوي بين المسلم والمسيحي. والمساواة فكرة لا ترد في ذهن حتى المعتدلين من المسلمين. هؤلاء ينظرون إلى المسيحيين باعتبارهم «ضيوفاً» و«جيراناً» لا «شركاء» في مجتمع واحد.
وعي المساواة خافت، وهو ما لاحظته وكالة «بلومبرغ» وهي تعلّق على الفيلم، مشيرة إلى أن «مصر قد عرفت بتسامحها الديني وتعايش مسلميها ومسيحييها معاً، ولكن هذه الشهرة في سبيلها للاضمحلال». ورأت أن «حسن ومرقص» «يجسّد العلاقة المتنافرة بين المسلمين والمسيحيين في مصر». ولكنها نقلت عن ناقد مسيحي قوله: «إن الكثير من المسيحيين يرفضون مساواة المتعصبين المسلمين بأمثالهم من الأقباط، إذ لم يقوموا بأي سلوك تعصبي في السنوات الأخيرة».
المساواة بين التعصب المسيحي والإسلامي ملاحظة ذكية، لكنها مرتبطة بمزاج الفيلم الذي لم ينشغل أبداً بتحليل أعمق. إنه رسالة تعبر عن أقصى تصور للتسامح، ولا تبتعد كثيراً عن نظرة الدولة.
عادل إمام هو صانع الفيلم الأساسي، ممثله ونجمه والمعبر عن روح رسالته. هو يشبه الفيلم إلى حد كبير، إذ أصبح مثل أيقونات كبيرة يستخدمها النظام في معاركه (مع الجماعات المتطرفة غالباً)، مستغلاً موهبته وشعبيته الجارفة.
وفي نوعية أفلام مثل «حسن ومرقص»، تداعب عادل إمام أحلام قديمة بأن يكون «فنان الشعب». سألته صحيفة ذات مرة: «لماذا انتميت للتيارات اليسارية فى بداية حياتك؟»، فقال: «لأنني أردت أن أكون بطلاً خادماً لوطنه، وأنا دائماً أنحاز للناس الغلابة لأنني من هذه الطبقة». «والآن ..؟» كان السؤال التالي. وإجابة إمام كانت واضحة جداً: «أنا الآن أميل إلى التيار السياسي الذي يمثله الرئيس حسني مبارك».
وعادل إمام يشبه فعلاً أفكار تيار مبارك، أصبح مثلها مجمعاً من نثار أفكار اشتراكية ورأسمالية، علمانية ومحافظة، وطنية وعائلية. أفكار الجيّد منها أصبح عجوزاً. عادل امام أخذ الفيلم إلى الفكرة الرائجة عن الوحدة الوطنية، وصنع منه ملصقاً كبيراً يلفت الجمهور الواسع بقدر ما يمكنه الخروج من معاركه اليومية من أجل الحياة، وفي هذه المعارك أسهل شيء أن يتحول أي خلاف سياسي أو شخصي إلى صراع حول الدين.
لم يعد غريباً في مصر أن يكون السؤال الأول في إطار التعارف الشخصي عن الديانة. وليس غريباً أن يكون السؤال عن الاسم هو وسيلة لمعرفة الدين قبل السؤال المباشر. كما يسمي المتعصبون المسلمون الحذاء المنزلي «شنودة»، ردّاً على ما تتصوره العقلية المريضة من أن تسميته القديمة: «خدوجة» أو «زنوبة» هي مؤامرة مسيحية لإهانة زوجات النبي.
هذه التفاهات تسيطر على العقل في مصر الآن، وهي جزء من عدوى انتقلت من السلطة إلى المجتمع. لكي تكون في السلطة الآن، لا بد أن تحتمي بعائلة أو مجموعة قوى. وفي المجتمع، العدوى تنتقل ليشعر المسلم بأنه أقوى وسط مسلمين يرون أنهم الأحق في الفرص القليلة المتاحة. والمسيحي يبحث عن مراكز المسيحيين ليحتمي من الشعور بأنه بلا فرصة، فيلجأ إلى جدران كنيسة ينتظره خلفها كهنة عاشقون للتسلط والزعامة والشهرة.
والتعصب ليس تديناً مفرطاً، لكنه استقواء، يعتمد على كلمات عليا بعدما سقطت نظريات الخلاص الدنيوية، وبعدما أغلقت أجهزة النظام كل تعبير عن الغضب أو السخط، في مقابل فتحها المساجد والكنائس باعتبارها التعبير الاجتماعي المقبول عن الوجود، فتحوّل المجتمع إلى حلقات تضيق مع الوقت. الطائفة الأكبر تتعالى على الطائفة الأقل عدداً،
هكذا يلاحظ زائر مصر علامات التدين المعلنة في كل مكان. مسلمون ومسيحيون في الشوارع والمتاجر، وسيلاحظ أن حجم الفساد يتضخم. لماذا يتضخم الفساد الكبير (في المصارف وبين أعلى مستوى فى النخبة السياسية الحاكمة) والصغير (بين الموظفين والمسؤولين)، في وقت يغالي الناس في إظهار التدين، بل التطرف.
في حالة الأقباط، تبدو الأسئلة أصعب لأن التطرف سري، مكتوم داخل جماعة مغلقة تسيطر عليها سلطة مطلقة من الكهنة. هؤلاء عندما يحبّون الدخول في لعبة السياسة، فإنهم يحرّكون فقط الغضب المكتوم باتجاه تكوين «شعب» أو «جماهير».
تتحوّل الديانة إلى إشارات تعصب لتعلن قوة خفية لكاهن يريد المشاركة في اللعبة. والدولة التي تريد التحكم في كل شيء، تختار الكاهن أسهل من تغيير المجتمع ليصبح متعدداً، تختار أيضاً عائلات بعينها لتمنحها ميزة التمثيل النسبي للأقباط.
هكذا يعيش التطرف والفساد في توأمة منسجمة، يتصارع الناس على من يملك إلهاً أقوى، ويتركون الحياة لمن يفسد فيها.


الموجة الثالثة

للتطرف الجديد وجه جديد في مصر هذه الأيام، يمكن إطلاق اسم «الموجة الثالثة» عليه. تطرف متحرّر من التنظيمات، جزء من حالة فردية باتت تنتشر بكثرة في المتجمع، وتبشّر بعودة «الجهاد»

لم يجد الشاب غير بيت وزير الداخلية ليعلن أمامه أن «الحكومة كافرة». الإعلان دراماتيكي. حمل الشاب سكينه وتوجه من بيته يوم الاثنين الماضي إلى منطقة سكن الوزير، لم يحدّد البيت بالضبط، فاتجه إلى مكان الحرس. في إشارة المرور، بدأت صيحاته وهجومه على شرطي المرور وعنصر الشرطة في فريق الحراسة. السكين جرحت أحدهما، وهو أصابته طلقة نارية، نُقل بعدها إلى مستشفى الشرطة.
بطل المشهد الغريب، شاب عمره ٢٦ سنة، من قرية تابعة لمحافظة الدقهلية، من عائلة موظفين. درس الصيدلة في جامعة خاصة، لكنه عرف هناك طريق البحث عن السعادة المتخيلة في مخدرات الطبقة الراقية. أصبح مدمناً ينتقل بين المصحات وأحضان العائلة المصدومة بابنها الكبير، لكن الابن خرج من الإدمان إلى طريق آخر عندما التقى مدرساً عائداً من السعودية عرّفه إلى أفكار الجهاد، ولم يعد يرى سوى طريق واحد هو الجهاد ضد الحكومة الكافرة.
هذا باختصار. وبينما كانت الحكومة تجري مفاوضات مع أمراء الجهاد في السجن، كان هناك شاب في قرية بعيدة عن العاصمة يقع في إغواء الفكرة، ويقرر وحده ومن دون تنظيم أن يستمر في الجهاد. إنه إعلان عن موجة ثالثة من التطرف الإسلامي (الأولى كانت مع الإخوان المسلمين في الأربعينيات والخمسينيات، والثانية بدأت في السبعينيات بالتكفير والهجرة). الموجة الثالثة فردية وتعقد صلاتها بالعالم المعقد لتنظيمات الجهاد عن طريق روابط افتراضية.
الموجة الثالثة أكثر تطرفاً، ولأنها فردية فهي أقرب إلى قفزات غير منظمة تناسب عدم التوافق مع المجتمع المستسلم والنظام الجبار الذي يغلق قنوات السياسة ويطحن معارضيه ويمتصهم في رماله الناعمة. لا مجال للتوازن معه سوى اللجوء إلى سلطة علوية أقوى، ولا مساحة للاختلاف عليها. «باسم الله» يمكن شن حرب على النظام الذي أغلق الدنيا في وجه الشاب. والجهاد هو قتال تحت راية، إما أن تحقق له النصر أو تضمن له الجنة.
الشاب صاحب الغزوة الفاشلة لبيت وزير الداخلية، ربما لا يكون سوى علامة تائهة من هذه الموجة الجديدة، سبقتها علامات ظهرت في عمليات «الأزهر» وشرم الشيخ وطابا ودهب، حيث بدا أن هناك استخداماً لنظام الوكالات الحصرية في التجارة.
نظام الوكالات الحصرية تحوّل إلى أسلوب لتنظيم «القاعدة» الذي يعطي علامته لتنظيمات صغيرة تعمل بتوجيهات أساسية، لكنها مستقلة ومحدودة العدد والامتداد. ومن «الفرانشيز» إلى البطولات الفردية، تستعد مصر لعودة الجهاد.


فقهاء السلطانهي شرعية غير معلنة، لكنها تؤمّن استمرار فكرة الطاعة العمياء؛ فالفرعون مؤمن وولي الأمر وحرام الخروج على طاعته. المؤسسة الدينية مصممة للخدمات السريعة للنظام، وهذا ما يفسر سرعة إصدار مجمع البحوث الإسلامية بياناً ضد إيران قبل أن يشاهد الفيلم. إنه بيان طبيعي وجزء من وظيفة السند الديني للدولة. ووظائف مثل المفتي تستخدمها الدولة في تمرير رؤيتها السياسية.
المفتي هو منافس تقليدي لجماعات الأصولية الإسلامية، وسلطة تحمي بها الدولة نفسها من هجوم المتطرفين. المفتي ليس حراً في الفتوى. الحرية الوحيدة المتاحة له هي القضايا الاجتماعية، وهذا ما يدفعه إلى التطرف فيها، لأن في محترفي الفتاوى الآن شعاراً هو: التطرف أول طريق لنجومية الشيوخ.
عام 1926، طرح نواب البرلمان قضية إلغاء منصب المفتي. وكان الاقتراح في إطار مناخ عام يحلم بدولة مدنية حديثة. والقرار الجريء اتخذه مجلسا النواب والشيوخ بتحويل تبعية مدرسة القضاء الشرعي ومدرسة المعلمين الأولية ودار العلوم إلى وزارة المعارف العمومية، بدلاً من تبعيتها السابقة لشيخ الأزهر.
لا تزال أصداء هذه المعارك حتى اليوم. ولا تزال أحلام التخلص من سلطات فوق البشر موجودة رغم الهزائم، ورغم ارتفاع درجة الهستيريا الدينية التي رمت بآثارها على كل مناحي الحياة وأدت إلى إضفاء صبغة دينية على كل شيء.