كان مخيم اليرموك حاضنة، وولادا للإبداع، فكان فيه الفنان التشكيلي والشاعر والمصور الفوتوغرافي، وكان فادي خطاب الشاب الفلسطيني الجامح، الذي لا ينزل يده خلال المشي في المخيم من كثرة السلام..فادي اليوم مهاجر في أوروبا، ولكنه أوقف عبر عدسته لحظات كثيرة في تاريخ المخيم، فباتت ذاكرة لن تمحيها الأيام.. وكما أوقف اللحظات للمكان، أوقف النظرات الجميلة لكثير من أبناء المخيم، تحت عبارة " هاي بوسترك صار جاهز بإمكانك تستشهد "، كانت مجرد مزحة، لكنها صارت حقيقة.. استشهد عشرات الشبان من أبناء المخيم، كأحمد كوسا وخالد بكراوي وحسان حسان وسواهم..
لأجل تلك اللحظات ولأجل العلاقة بين الفلسطيني ومخيمه وأهله كان هذا الحوار.. يرى الفنان فادي خطاب بأن اللقطة الفوتوغرافية ليست مجرد إيقاف للحظة ما من الزمن، إنما هو كمصور يرى أن بمقدوره «إيجاد اللحظة المناسبة لإيقافها كي تعبر عما أريد«، كما يرى أن الفنان لا بد له أن يؤمن بقضية ما يتبناها وينتمي إليها، ويدافع عنها والعدسة كما يقول: «هي الوحيدة التي لا تقدر على المراوغة في الموقف..

بمعنى أنها غير قابلة لاحتمال الكذب».. وبإمكاني أن أقول يضيف فادي «إنها أصدق حتى من حاملها».. ويتابع مبجلا العدسة بأنها «لا تمجد حالة بالمعنى الوظيفي الصحفي، بينما بإمكان اللون في اللوحة التشكيلية أن يفعلها بشكل ما عبر التأويلات الكثيرة التي قد تحملها اللوحة، وكذلك عدد من الفنون البصرية الأخرى».
يرى فادي خطاب أن «الفن لأجل الفن»، لكن له دور وظيفي مهم ولا يمكن أن يكون «أداة للتملق والمراءاة..»، ويضيف «من غير الممكن أن توظف العدسة لخدمة جهة بعينها.. حتى الصورة الصحفية ستمتلك الحيادية عندما يكون المصور مهنيا واحترافيا وصاحب ضمير إنساني».
ويعبر فادي عن اللقطة ضمن مفهومه للفن قائلا: «اللقطة هي النفس الأخير للمصور، كأنه يستشهد بعدها وهو يغطي حالة إنسانية كتغطية الحروب والكوارث الإنسانية، والأمثلة عديدة على مثل هؤلاء المصورين».
وعن بعد اللحظة في تكوين العمل الفني الذي لا يفصله فادي خطاب عن العمل الصحفي من حيث الوظيفة يرى أن «اللحظة لها دور زمني في وجود المصور بالمكان لحظة وقوع حدث معين.. ولكن فنية اللقطة وتقنيتها لها حضور لا يقل عن الحدث بحد ذاته»؛ ويصنف اللحظة، شقين زماني ومكاني فيعتبر أن الأول «هو الذي يختارك، لأنك ربما تتواجد في منطقة مستقرة ويحدث فيها فجأة حدث طارئ يستوجب عليك الوقوف أمامه وتوثيقه» أما الشق المكاني فيكون «باختيارك كمصور صحافي لساحة تصوير، يغريك حدثها، حيث أرى من وجهة نظري ضرورة تواجد حس المغامرة لدى المصور».
وعند سؤاله عن اللقطة المباشرة وطبيعتها في فن التصوير الفوتوغرافي يقول «لا أستطيع أن أبخس اللقطة المباشرة قيمتها، لأنها في لحظة معينة هي الأصدق تعبيرا عن الخير والشر، وعن صراع الوجود، وكمثال لقطة محمد الدرة ليس بإمكاننا أن نأخذها بنفس ميزان اللقطة التعبيرية لنفس الموضوع، وعليه تبقى قيمة اللقطة المباشرة باعتبارها تؤرخ للحدث واللحظة بصدق، وبهذه اللحظة لا تختلف عدسة المصور عن بندقية المناضل».
وعن ميله إلى مدرسة فنية بعينها يستحسن أن يبقى حرا من أي قيود ولكن «أميل إلى اللقطة التجريبية، والحداثة في تجارب التصوير» ويجد خطاب نفسه، مؤطرا ببعد فني في الشتات من خلال الرؤية البصرية والربط بين تلك الفنون وذلك لكونه واحداً من أبناء الشعب الفلسطيني فـ «اللقطة واللوحة التشكيلية والرمز الموجود بينهما، يكملون بعضهم بعضا، فلوحة «جبل المحامل» لـ سليمان منصور أعطت صورة عن الشعب الفلسطيني باعتباره يحمل الكثير على كاهله في معركة تحرره، أتت بعدها كما كان قبلها العديد من الصور الفوتوغرافية لتعمق المعنى الذي ظهر في اللوحة، والأمثلة عديدة على ترابط الفنون البصرية الأخرى مع الصورة باعتبارها تنقل الواقع كما هو وبصدق تام».
ومن وجهة نظره فإن الفلسطيني أصبح يحمل شكلا متحفيا في قضيته وأساليب التعبير عنها، ما طرح عليه أسئلة كبيرة أوصلته إلى الرابط الدرامي بين القضية الفلسطينية والهنود الحمر، حيث يجد شبها كبيرا بين «لقطات طابور الإعاشة للفلسطينيين، وطابور البطانيات الملوثة بجرثومة الجدري للهنود الحمر، كحرب جرثومية ممنهجة لإبادة هذا الشعب»، ويعتقد أن الرسالة الموجودة في «تنكة السمنة» للفلسطينيين، و«البطانية» للهنود، واحدة «هي إنهاء وجود هذي الشعوب العريقة والمتجذرة في أماكنها التي زُرَع مكانها شعوب أخرى من كل الأصقاع بدلا عنها».
لكل هذا يعتبر فادي خطاب أن مشروعه الدائم كفنان هو «تأريخ حياة الفلسطيني اليومية كإنسان قبل كل شيء، كتأكيد على وجود وعراقة هذا الشعب وعدم قدرة أي قوة على إنهائه كما جرى للهنود الحمر».
ويؤكد الفنان فادي خطاب على أهمية جدران المخيم في تكوين وعيه البصري وتشكيل ذاكرته البصرية عبر السنين التي عاشها هناك إذ «شكلت جدران المخيم لي هاجسا، خلال تجوالي في المخيم منذ الصغر خلال طريقي إلى المدرسة، ولاحقا حين كبرت، حيث كان بوستر الشهيد أحد عوامل تكوين وعي مشهدي مبكر لي، حول قيمة الصورة لتأريخ حياتنا كفلسطينيين، وتأكيد وجودنا».
ويتذكر مسيرتي العودة (15/5 ـ 5/6/2011) التي استشهد فيها عدد كبير من أبناء المخيمات الفلسطينية في سوريا ولبنان ويعبر عنهما «استشهد أكثر من صديق لي فيهما، وحين شاركت في المسيرة الثانية وجدت نفسي أمام عدد من الشهداء مشيت مع البعض منهم في شوارع المخيم، وبعضهم رأيته في مكان ما في المخيم، حينها دار حوار داخلي في نفسي أخذني إلى شوارع فلسطين المحتلة، وتخيلتني واحدا من المصورين في أحد المستشفيات التي تستقبل الشهداء وأنا أقوم بتصويرهم كما فعلت مع شهداء مسيرتي العودة».
تكون وعي الفنان فادي خطاب تجاه قيمة الصورة النضالية من عمه الفنان محمد سامي خطاب الذي استشهد في أحد مواقع الثورة الفلسطينية في مدينة البقاع اللبناني خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، بعد غارة جوية «بمصادفة غريبة لا تحدث إلا لفنان عادة، كانت اللقطة الأخيرة لعمي الشهيد هي الطائرة التي قصفت الموقع الذي كان متواجدا به». ويضيف: «عمي محمد لم أعرفه إلا من أول صورة أخذت لي بعد ولادتي، ومن صورة له معلقة في بيت أهلي، كأن الصورتين شكلتا علاقة روحية بيني وبينه لأتمم ما بدأه وما آمن به، إضافة إلى أغراضه، حيث من المعلوم في مجتمعاتنا أن أغراض الميت تبقى لدى أهله، وللمصادفة كانت كل أغراضه في بيت أسرتي، ونتيجة فضولي لاستكشاف عمي الشهيد، وجدت نفسي غارقا في عالم آخر فيه الصور ومعدات التصوير المختلفة التي فتحت أمامي بوابة آمنت بها للنضال من أجل قضيتي الفلسطينية الإنسانية. كما بإمكاني أن أقول أنه هو الذي كونني فكريا عبر تركه للعديد من الكتب الماركسية التي قرأتها وتأثرت بها فكريا. أقول إن عمي صقل بغيابه شيئا كان لا بد أن يكون».
وفي ختام اللقاء مع الفنان فادي خطاب عبر عن اللقطة بجملة اختصرت العديد من المعاني حيث قال: «اللقطة لا تحتمل نصف حقيقة».