ما إن تدق الساعة السادسة، حتى تنهض من فراشها لتوقظ أخي قبل أن يتأخر على مدرسته، ثم تنهمك ببعض أعمال المنزل ريثما تصبح السابعة والنصف، عندها تحمل حقيبتها وتخرج.
حقيبة صغيرة، تضع داخلها آلة لقياس الضغط وأخرى لفحص معدل السكري. أدوات طبية هي رأس مال مهنتها. مهنة اختارتها وعملت بها منذ أكثر من ثلاثين سنة.
ثلاثون سنة وهي تدور بين أزقة المخيم. تدخل بيوت الناس، تعرف قصصهم، تسمع مشاكلهم، وتشاركهم همومهم. والأهم من هذا وذاك، أنها تواظب على إتمام عملها، فتقيس معدل السكري والضغط للمسنين فقط. تحافظ على صحتهم وتنبههم إلى مواعيد الدواء وتمنعهم من تناول ما يضرهم من الأطعمة.
أناس اعتادت على طبيعتهم، منهم من يشكرها، ومنهم من يصبّ جام غضبه عليها لأنها منعته من أكل ما يحب ويرغب، لكن يضر به، ومنهم من يدعو لها بالخير. ساعات تمضيها مع أهالي المخيم إلى أن يحين موعد عودتها إلى منزلها وعائلتها. وهنا يبدأ يوم آخر.
هكذا تمضي هذه المرأة الفلسطينية أيامها، ما بين العمل والمنزل، حتى أصبحت نموذجاً يمثل كفاح نساء مخيم برج البراجنة.
إن نظرت إليها، تقرأ صمودها وتصميمها، تشعر بتعبها، لكن برضاها أيضاً. تعرف كم من السنوات ضاعت من عمرها وهي بين أزقة المخيم وحواريه، بالكاد تخرج منه وقت النزهات، فتتعرف إلى لبنان، إلى مدن كبيرة وجميلة وشوارع ليست كتلك التي بالقرب من منزلها. وعلى الرغم من ذلك، ومن جمال تلك الشوارع الواسعة والحدائق والمتنرهات، إلا أنها لا تشعر بالأمان إلا عندما تصبح على مدخل مخيمها، مدخل محاط بقوى أمنية تحمي لبنان واللبنانيين ممن هم محشورون في داخله بانتظار عودة طال انتظارها.

هذه هي أمي. اعتدت على طبيعتها منذ صغري. حرِصَت دوماً على أن لا أجعل من المخيم مأوى دائماً لي، كي لا أصبح عالقة بين قضاياه مثلها.
لم تعمل منذ أن أنهت دراستها لمهنة التمريض خارج المخيم. ليس لأن هذا النوع من العمل ممنوع على الفلسطينيين، بل لأنها أحبت أن تخدم أهلها وناسها هناك.
سيدة بسيطة رغم صعوبة أيام مرت عليها منذ أن أصبحت في المخيم. منذ أن أصبح مأواها ومأوى ذويها بعدما هُجِّروا من ترشيحا، فقريتها تلك كانت ضمن الأرض التي احتلت عام ثمانية وأربعين. أيام، ذاقت حلوها ومرها، تعلمت وعلمت، مرّضت وعالجت وداوت وطبطبت.
لن أنسى قصص الحروب التي روتها لي. حروب لو كنت موجودة حينها، لتجمدت ذاكرتي عند أحداثها الهائلة. عند مجاعة أجبرت كل اثني عشر فلسطينياً على ان يقتاتوا سوية نصف رغيف خبز. أجبرت من ربى قطة أن "يستفيد" من لحمها. أجبرت الأمهات على جمع أشلاء أبنائها بيديها. وكأن التهجير والشتات والفقر والبعد عن الوطن لا تكفي.
هي قصص اتشحت بالسواد، وغرقت بدموع لا تجف. نعم، إلا أن الحياة لا تقف عند ذلك. فالفلسطيني اعتاد أن يغزل الألم صبراً، فكيف بالأمهات؟
هي هناك، بعيداً عن نقاط التفتيش الأمنية التي تحيط بالمخيمات الفلسطينية. وبعيداً عمن يتباهون بأنهم دخلوا تلك المخيمات يوماً وبقوا أحياء ليرووا حكاياتهم.
هناك بين أزقة المخيم الضيقة، داخل منازله المتلاصقة، قصص وحكايات تسردها الجارات في صباحاتهن. وخلف الجدران، أناس كباقي الناس، لهم قصصهم وهمومهم.
يفكرون بسعر الخبز اليوم، وأقساط مدارس وجامعات أبنائهم غداً.