رام الله | كان من الصعب على السلطتين الحاكمتين في الضفة المحتلة وقطاع غزة، أن تشرعنا الحملات والسياسات الأمنية دون تصدير سردية «منع عودة الفلتان الأمني». ففي كل مناسبة، تفخر سلطة أوسلو في الضفة، كما يتباهى خصومها من «حماس» في غزة، بالقدرة العالية على ضبط الأمن في هذه المناطق المحتلة، لكنّ الطرفين يتجاهلان أن التهديد المباشر واليومي على الأمن الشخصي للمواطن الفلسطيني هو «قوة» الاحتلال الإسرائيلية. وبتتبع تصريحات قيادات كثيرة في الطرفين خلال السنوات الماضية، بدا أن معنى حفظ الأمن يُفهم لديهم حصراً بمنع عودة «الفلتان»، إذ يلقي فيه كل طرف باللائمة على خصمه السياسي.
على هامش هذا الخطاب والحالة السياسية، وجدت شركات الحماية الأمنية الخاصة، فرصة جيدة لبدء نشاطاتها في الضفة وغزة. وعلى الفهم نفسه، تنظر هذه الشركات إلى أن التهديد يأتي حصراً من «الفلسطيني» لا من الاحتلال الإسرائيلي. ومنذ عام 2006 هناك ثلاث شركات حماية خاصة (حماية، بال سيف، Page Group ltd) في الضفة، واحدة منها أميركية وتعمل أيضا في غزة.
سيناريو انهيار السلطة
يقود إلى تفعيل الدور الخفي لهذه الشركات
تقول هذه الشركات إنها ترمي إلى توفير نطاق واسع من ظروف الأمن المختلفة في القطاعين العام والخاص، مروراً بالقطاع الدبلوماسي، وصولاً إلى المناطق التجارية والصناعية الضخمة.
وتتلخص «المزايا الأمنية» المقدمة في خدمة الحراسات الثابتة والمتحركة على مدار اليوم: منازل وأعمال، والمرافقات، ونقل الأموال والمقتنيات الثمينة، إضافة إلى توريد الأجهزة والمعدات الخاصة بالأمن والسلامة العامة، والتخطيط لعمليات الإخلاء والطوارئ، بجانب المسح والخطط الأمنية، والإنذارات عبر تقارير التوقعات اليومية والأسبوعية وتقارير السير. ومن أبرز الخدمات اللافتة التدريب الأمني الذي يشمل الأجانب والمواطنين في فلسطين. وكذلك خدمات غرفة التحكم والمراقبة.
قد يبدو هذا كله عاديا في حالة الدولة، أما في وجود الاحتلال، فالأمر يستحق السؤال: ماذا يعني وجود شركات حماية أمنية تعمل على توفير الأمن بهذا النطاق الواسع لمعظم المرافق الحيوية الموجودة في الضفة، القابعة تحت الاحتلال المباشر؟ مع العلم بأن غالبية مدنها تتعرض بصورة شبه يومية للاقتحامات والإغلاقات والاعتقالات. أيضاً، لماذا تزداد الحاجة إلى شركات الحماية في الوقت الذي يجب فيه أن تتكفل السلطة الفلسطينية بالدور الأمني المتمثل في حماية المجتمع؟ وهو الدور الذي يتراجع مقارنة بما تفعله في مواجهة خصومها السياسيين من جهة، وحماية أمن الاحتلال من جهة أخرى.
من هنا يمكن الانطلاق لفهم آلية عملية هؤلاء «الفاعلين الأمنيين» الجدد والبحث عن تقاطعاتهم مع مشروع أوسلو، وخاصة في الضفة التي تضم النطاق الأكبر لعملهم. الإجابة تبدأ من التقاطع بين عمل الشركات المذكورة والسلطة، وخاصة إذا علم أن الأجهزة الأمنية الرسمية تنسق لنشاطات مشتركة وتدريبات مع تلك الشركات، المحلية أو الدولية، وهو ما تثبته الصور المنشورة على الصفحات الإلكترونية لتلك الشركات، كما أن المثير معرفة أن عمل تلك الشركات غير محكوم بضوابط قانونية وتشريعات معينة تمنعها من التعسف واستعمال القوة والمعلومات التي تجمعها عن عملائها أو لمصلحتهم.
أيضا، لم يقد البحث عن رؤساء مجالس إدارة هذه الشركات إلى نتيجة محددة تحدد مدى ارتباطها بالسلطة، وذلك لصعوبة كشف هذه المعلومات وخاصة أن الحديث يدور عن شركات أمن. وفي الإطار نفسه، فإن من نافلة العمل محاولة معرفة الشروط التي تضعها تلك الشركات لتوظيف العاملين فيها، وخاصة ما يتعلق بالمسح الأمني والتأكد من خلو تاريخ المتقدم للعمل من أي نشاط سياسي.
عموما، في سياق معقد أمنياً، كما الحال في فلسطين، يبدو سطحياً النظر إلى وجود شركات الحماية الخاصة وأنشطتها على أنها مجرد شركات خدماتية لا تتقاطع مع منظومة الصراع والسيطرة. لو ألقينا نظرة على خدمات تلك الشركات، في المواقع الإلكترونية الخاصة بها، نجد بطريقة أو أخرى عملها أنها |قوة استخبارية غير قانونية|. مثلاً، من ضمن الخدمات المقدمة «التقارير اليومية والخاصة حول وضع طرقات الضفة والحواجز العسكرية ونقاط المواجهة»، وأيها مشتعل وأيها هادئ، ما يعني أن هذه الشركات غطاء مرخص لجهاز معلوماتي مصغر.
التعريف الموجود في الموقع الإلكتروني لإحدى الشركات يقول: « توفر (...) لمشتركيها تقارير يومية عن الوضع الأمني، ولدينا نظام الرسائل النصية الفورية للتطورات الميدانية... تتضمن هذه التقارير تحديثات حول وضع حركة السير، وأوضاع الحواجز الأمنية، إضافة للمعلومات الطارئة، وذلك لإبقاء عملائنا في حالة معرفة تامة لحمايتهم خلال تجوالهم على طرق فلسطين».
النشاطات والتقارير تشبه تماما ما تعمل عليه الأجهزة الأمنية الرسمية، أحيانا «بما يخولها القانون الفلسطيني وبما يتجاوزه في الوقت نفسه»، لكن، وبموجب التنسيق الأمني تمرر هذه التقارير إلى الاحتلال وقوى إقليمية ودولية أخرى، وذلك بموجب اتفاقات التعاون الأمني وغيرها. الحالة نفسها لا يمنع أن تتكرر مع الشركات الخاصة، كما يبدو أن «سلطة أوسلو» راضية تماماً عن نشاط الشركات السابقة في مناطق سلطتها.
لا يخرج تفسير هذا الرضى لدى رام الله عن ادعاءين أساسيين لها، أولهما أنها تضبط الأمن في الضفة كما ينبغي لها كسلطة محل ثقة لدى «قوة» الاحتلال وأطراف دولية أخرى، الأمر الذي يدعم خطابها المستمر بأنها فعالة وناجحة في بناء مؤسسات الدولة. الادعاء الثاني أن الضفة مكان آمن للاستثمار بتنوعاته، وأنه إذا ما كان لرأس المال الأجنبي شكوك بكفاءة وفعالية الأجهزة الأمنية، فيمكنه الاستعانة بشركات الحماية الأمنية الخاصة.
على كل حال، في بيئة صراع مضطربة، وفي ظل التقارير المتوالية عن المخاوف من انهيار السلطة ومنظومتها الأمنية (لأسباب مالية أو كنتيجة حتمية لعدم شرعيتها)، ستمثّل نشاطات الفاعلين الأمنيين الجدد تهديداً حقيقياً لنظام الأمن في فلسطين. ففي «مبادرة اليوم التالي» الصادرة عن المركز الفلسطيني للبحوث السياسية المسحية (تشرين الثاني 2013) تتحدث ورقة قدمها الباحث، سعيد زيد، عن أثر غياب السلطة في النظام والأمن العام. يقول زيد، إن «غياب السلطة سيكون من أخطر الأحداث التي سيشهدها الشعب الفلسطيني، لأن ذلك سيترك آثاراً بالغة الأهمية».
من هذه الآثار أنه «سيسود فراغ أمني يتخلله شعور عام بفقدان الاستقرار والأمان السياسي والاقتصادي والشخصي، وذلك بوجود عشرات الآلاف من رجل الأمن المدربين جيداً والمسلحين المتعطلين عن العمل والمحبطين، وانتشار الأسلحة والجريمة والاعتداءات على الأملاك العامة والخاصة»، يضيف معدّ الورقة أن ذلك سوف يزيد احتمالات نشوب اضطراب داخلي يتسم بالعنف، وهذه الفرضية تحيلنا على خيارات تتعلق بتوفير الأمن وسد الفراغ في حال غياب/انهيار السلطة، ومنها اللجوء إلى العائلات والعشائر لتوفير الأمن، أو الأحزاب والفصائل السياسية... وأيضا تدوير المسؤولية الأمنية في الضفة بالاستفادة من وجود الشركات الخاصة.
عن خيار التدوير، فإنه في حال انهيار السلطة يقود ذلك إلى خياران: الأول أنه في ظل غياب أي قانون خاص ينظم عمل هذه الشركات، ويحدد عدد أفرادها وتسليحها، وغيرها من الضوابط التي تمنع تحولها إلى قوى أمنيّة «بديلة»، فإن من المتوقع ازدياد الاستعانة بهذه الشركات، وخاصة في مناطق المواجهات التي يشعر فيها أصحاب الأعمال بالحاجة إلى مستوى أعلى من الحماية من تلك التي تقدمها الأجهزة الرسمية. يمكن أخذ حالة باب الزاوية (مدينة الخليل) كمثال على منطقة أعمال وتجارة تقدم فيها السلطة الحماية للتجار، وذلك عن طريق منع وضبط المواجهات مع قوات الاحتلال، وإذا انهارت السلطة، فهل ستعود تلك المنطقة إلى سابق عهدها كمنطقة مواجهات يومية، أم أن شركات الحماية ستؤدي دوراً لافتاً في ضبط المنطقة؟
من ناحية أخرى، لو أخذنا بعين الاعتبار أن الشركات الخاصة جزء من المنظومة الاقتصادية الحالية التي يمكن أن تنهار مع غياب السلطة (ما يعني أنه قد تضعف هذه الشركات وتختفي)، فإن التراكم الكبير في الأعمال ورأس المال لدى شركات بعينها جعل ضروريا وجود حاجة إلى درجة من الأمن أعلى مما يوفر رسميا.
هذه الشركات أيضاً تعبر عن تصاعد الفهم الجديد للوضع الفلسطيني، أي إنك بحاجة إلى حارس خاص يحميك أكنت فردا أو تمثل منظومة، وهذا يعني أن هناك خطرا من الفلسطيني نفسه، فيما تخرج قوة الاحتلال من دائرة التهديدات، لأن شركات الحماية الخاصة لن تحميك من الجيش الإسرائيلي. وفي الأمن، دائماً هناك مصادر تهديد، فمجرد استئجار أحدهم حراسة، وخاصة يعني أن تهديده داخلي، وهو يسلم بطريقة ما إلى أن الإسرائيلي لا يمثل تهديداً، أو أن التهديد الإسرائيلي لا يوجد ما يمكن فعله لمواجهته. ويؤكد هذا الافتراض أنه ما من نسب جريمة مرتفعة في الضفة، لذا ما من مخاوف خاصة شخصية. كما يظهر أن إحدى الشركات تقول إنها توفر خدمة مرافقة وحماية للشخصيات المهمة، أكانوا قادة سياسيين زائرين أو شخصيات مشهورة، أو حتى ممثلين عن مؤسسات أو منظمات غير حكومية، وهي تعمل على توفير خدمات سرية لضمان حركة آمنة لهم داخل وحول فلسطين... لكن بعيداً عن الاحتلال!