strong>ستون عاماً والتهويد لم ينته. البقايا العربية في فلسطين التاريخية لا تزال تحت رحمة الهدم والتهجير. الغاية محو الأثر العربي وإقامة حاضر مفصول عن التاريخ. يافا «عروس فلسطين» أحد النماذج
مخطّطــات منهجيّــة لتشريــد العــرب وهــدم مساكنهــم لتهويــد مــا تبقّى

يافا ـ فراس خطيب
القطار المتجه من حيفا إلى تل أبيب، صباح الأحد، ليس ضاجاً رغم اكتظاظه بالنازحين اليوميين من الشمال إلى المركز. كان بالإمكان «التنصت» على نقاش دار بصوت عالٍ بين امرأتين أشكنازيتين (كما يبدو) عن ضرب مدينة سديروت بـ«الكسام» (القسام). «مشهد المدينة يقطع القلب»، قالت الأولى بصوت عالٍ، بينما كانت المرأة الثانية تهز رأسها بالإيجاب، وتابعت «لا أعرف من سأنتخب في المرة المقبلة، كلهم أغبياء، أولمرت كان رئيس بلدية فاشلاً، فكم بالحريّ به رئيس حكومة». قبالة الاثنتين كان مجنّد ومجنّدة يتّكئان على سلاحهما ويغرقان في النوم، لا يؤرقهما النقاش.
القطار يقترب من «نيويورك» الدولة العبرية وقلبها النابض، تل أبيب؛ جسور وعمارات وماركات تجارية، واختناقات مرورية كأنها لا تتحرك، مدينة، عظمتها في شمالها، ووسطها متوسط الحال وجنوبها فقير نسبياً. كلما اتجه القطار جنوباً، اختفت الملامح النيويوركية تدريجياً، وتنتهي كلياً عند المحطة الأخيرة للقطار داخل المدينة، محطة «الهاغاناه» تيمناً بالعصابة الصهيونية التي استولت على المكان. هكذا في إسرائيل، تاريخ الصهيونية وممارستها لا يتركان المسافرين بحالهم. هي حرب من المصطلحات.
هناك حيث السواد غير المفهوم، والعمارات غير المرممة، والأسعار الرخيصة (نسبة لتل أبيب)، هناك ببساطة «جنوب تل أبيب»، كما يقولون دون تعليل. في أقصاه تبدأ مدينة يافا، وشقّها العربي، الذي يحيا على تركة التاريخ من حطام التاريخ وأزمة الحاضر، قضايا تفرض حضورها إلى حد المتاهة. يافا تابعة للبلدية «تل أبيب ـ يافو». يسكنها أكثر من ستين ألفاً، عشرون ألفاً منهم من الفلسطينيين يتركزون في أحياء عربية. يافا هي حال فلسطينية مألوفة بمأساويتها، كانت مركزاً تجارياً وثقافياً قبل النكبة. أهلها اليوم، رغم وجود ميسوري حال بينهم، متعبون من أعباء الحاضر: نسبة بطالة مرتفعة، أوضاع اجتماعية صعبة، بنى تحتية متهالكة، إجرام وملاحقة سلطوية لحجارتها القديمة، مشاريع هدم سلطوية. يافا باتت سؤالاً «من أين سنبدأ؟»
فيلم عبثي
على مقربة من حي العجمي، قال أحد الشبّان العرب من اللجنة الشعبية لمنع الهدم، إنّ «السلطات، في هذه اللحظة، تهدم السطح العلوي لبيت في الحي». الحجة مألوفة: «بناء غير مرخص». كان البيت محاطاً بقوات الوحدات الخاصة والشرطة الإسرائيلية، التي خلقت مساحة محظورة هناك. أهل البيت خارجه ينظرون إليه بحسرة، مجرد أناس لا حول لهم ولا قوة. صرخت جارة مسنّة من تحت شجرة جوز عارية الأوراق تحكي للغرباء: «سيهدمون بعد قليل البيت. صاحب البيت أب لستة أولاد».
محيط البيت خالٍ، لا متظاهرين ولا محتجين. بضعة صحافيين قادتهم الصدفة إلى المكان، وبضعة أفراد من اللجنة الشعبية لمكافحة الهدم، قالوا مبرّرين عدم الالتفاف الجماهيري إنّ الشرطة اختارت «توقيتاً مفاجئاً»، لا تنظيم فيه.
كان ضابط الشرطة يتباهى أمام الصحافيين بأنّ «كل شيء مرتّب». بدأ الهدم على مهل. الهدم عملية أشبه بالعسكرية، كان أفراد الوحدات الخاصة ينزعون بلاط القرميد، يرتبونه، ويخلعون الأسبست ويغلّفونه بهدوء، وسائق البلدوزر يشعل سيجارة، يتحدث إلى عنصرين من الوحدة الخاصة «انتظاراً للزملاء». وأمام هذا المشهد، كان صاحب البيت ينظر مكتوف اليدين.
كان المشهد عبثياً. يتمنّى المشاهد أن يفهم قسوة الفاعلين المغلّفة بابتسامة، وأن يفهم تلك اللافتة البيضاء «القلقة»، التي وضعتها الشرطة في المكان، كُتب عليها بالخط الأسود «احذر استنشاق غبار الاسبست». قلق من الغبار يتجاهل نوم عائلة في الشارع.
حين تسأل صاحب البيت ماذا سيقول لأولاده، يقول معزياً نفسه إنّهم «حالياً في المدرسة». من الصعب عليه تخيّل المشهد حين يعودون إلى «ما كان بيتهم».
صاحب البيت، مجدي حمّاد، قال إنّه بنى السطح العلوي قبل 16 عاماً، منذ ذلك الحين والإنذارات تتساقط عليه. طرق أبواب المحاكم كلها للحصول على ترخيص، لكن لا حياة لمن تنادي. الأهالي المجتمعون في محيط البيت مقتنعون بأنّ السلطات ليست معنية بمنح العرب تأشيرات للبناء: «يريدون رحيلنا، يريدون أن نملّ ونترك البحر لهم».
لا حاجة للتفتيش عن أناس يعانون المشكلة نفسها. ففي مدينة يافا العربية، ثمة 497 بيتاً مهدداً بالهدم أو الإخلاء. عليك أن تسأل سؤالاً بسيطاً: «من بيته مهدد؟» سيجيبك أحد المتكئين على أحد جدران الحي بـ«أنا أيضاً».
على مقربة من المكان، وقف يافاويان تجاوزا الأربعين من العمر، كلاهما لا يعمل، وغير متزوج. يشكو أحدهما أن بيته مهدّد بالهدم، وأنه طُرد من العمل لأنّه كان مجبراً على زيارة البلدية والمحاكم لإتمام ترتيبات البيت، «بدأت أعمل قبل ستة شهور، قلت للخواجة (المشغّل اليهودي) كل يوم لدي محكمة، لدي جلسة، حتى ملَّ مني ذات يوم وقال إبقَ في البيت».
بالنسبة إليه، مكان العمل لا يقضّ مضجعه، ففي قلبه حسرة أكبر «والعروس أيضاً تركتني، لأنَّ بيتي مهدد. أنا أفهمها، من سترضى العيش مع إنسان لا يملك عملاً وبيته مهدد بالهدم؟ أي امرأة ستعيش معيوما تراه العين يكاد يكفي. شابان تجاوزا الأربعين في يافا، يعيشان فقط من أجل الساعة المقبلة، لا أفق لهما ولا أمل، لا مكان عمل ولا شريكة وبيت مهدد. الحال اعتيادية «غالبيتهم مثلنا في يافا»، يقول أحدهم معزياً نفسه بابتسامة من «شر البلية».
من لا يعجبه فليرحل
حي العجمي هو صورة مصغرة عن مشهد مؤلم. غالبية أوامر الهدم تصدر فيه. هو خليط بين جمال يافا المطل على البحر ومأساة أهلها. شوارعه مستقيمة. والعمار فيه منخفض ليتسنى للبحر أن يكون جزءاً من مشهده الجمالي. هو الحي الأكثر استهدافاً وتهديداً في يافا العربية، نتيجة قربه من البحر.
يافا تشهد هدماً كل ثلاثة أسابيع تقريباً. تأتي القوات من غير سابق إنذار. هناك حالات يستعد لها أهالي المدينة، هناك حالات تمر من دون احتجاج، بحسب ما يقوله سامي بخاري، أحد أفراد اللجنة الشعبية.
البيوت في المكان بملكية الشركة الحكومية «عميدار»، التي استولت على المباني العربية في المدن المختلطة بعد النكبة. العرب في حي العجمي، كما في أحياء المدن المختلطة الأخرى، هم «مستأجرون محميون». البيوت ملكهم، لكنهم لا يملكونها. يمنع عليهم توسيعها أو ترميمها وقوانين توريثها للآخرين معقدة للغاية. من يخفِ القانون يعاقب مادياً أو عن طريق الإخلاء أو الهدم»، «ومن لا يعجبه فليرحل».
في يعض الحالات تطلب الشركة من أهل البيت إخلائه لكونه «غير صالح للسكن»، علماً بأنّ الشركة رفضت ترميمه في السابق. والشركة تبيعه في السوق الحرة، هناك حيث لا يلعب العرب، هناك حيث رؤوس الأموال الكبيرة من اليهود. ويبدو هذا جلياً في شوارع حي العجمي. بيوت مخلاة وأخرى ترمّمها الشركة، وأخرى بيعت حديثاً لمستثمرين يهود. سوق عقارات على حساب التاريخ.
تسوَّق هذه البيوت في مواقع الإنترنت والصحف، ليس على أنها بيوت العجمي، انما يستعمل المستثمرون تسميات «تروق» لليهود أكثر، مثل «تسفون عجمي»، تيمناً بـ «تسفون تل أبيب» (شمال تل أبيب الغني). قفزت أسعار البيوت من أربعين ألف دولار إلى مليون دولار في حالات. للمفارقة، الحي فقير لكن المباني باهظة الثمن إلى حدٍّ لا يفكر فيه العربي حتى في أحلامه: «هذه السياسة جاءت لإبعاد العرب من الطبقات الوسطى وتركيزهم في حي الجبلية أو إبعادهم عن البحر. يريدون المباني التي على البحر»، يقول
بخاري.
حي العجمي يبعد نصف كيلومتر عن البلدة القديمة المنتهية. سمي العجمي تيمناً بالشيخ ابراهيم العجمي، الذي يعدّه الناس من الأولياء. دفن جنوب البلد القديمة. صار الناس يبنون حول القبر ليتطور حي العجي.
في عام النكبة طرد جميع أهل يافا والقرى التي تحيطها. من 120 ألف إنسان بقي 3900 فلسطيني. اللاجئون لم يعودوا. جمعت العصابات الصهيونية كل من بقي من يافا وضواحيها في حي العجمي. أسلوب اتّبعته في غالبية المدن الفلسطينية التاريخية. وقد تجلت النكبة بشكل لا يقبل التأويل هناك. كما سعت الدولة العربية إلى سن قوانين أملاك الغائبين، حيث استولت على كل أملاك فلسطين التاريخية. من كان خارج ملكه، حتى ولو على بعد أمتار، خسره. كان القابعون في حي العجمي ممنوعين من الدخول الى أملاكهم في المدينة التي وزعتها الدولة العبرية على المهاجرين اليهود.
المحور المستهدف
حي العجمي واقع على مقربة من البلدة القديمة التي جرى الاستيلاء عليها بشكل كامل. البلدة القديمة مرممة، يسكنها فقط الفنانون اليهود «اليساريون» الأغنياء. مسارح وقاعات وبيوت محصنة ومعارض «لآباء الصهيونية». سقطت منذ زمن، لم يبقَ منها سوى اسمها وحجارتها، مشهد يذكر بالأمجاد لا أكثر، ويعيد الرائي إلى العصب الفلسطيني التجاري والحضاري المطل على بيروت وغيرها من بلدات السواحل، بصيغته المنهكة اليوم. المخطط لم يتوقف عند البلدة القديمة بل نزح الى حي العجمي
أيضاً.
مدينة يافا هي الأولى الواقعة على المحور المستهدف (يافا، اللد، الرملة). لا يمكن حصر ما تعانيه المدن المختلطة بقضية واحدة. حي العجمي هو صورة مصغرة عن مكان كبير، ومخطط في بحر من المخططات. فمنذ عام 1948 هدم 3250 مبنىً تابعاً للفلسطينيين.
السير في شوارع يافا يبتعد عن أحاديث الحنين البعيدة. الناس لا يذكرون أنَّ أم كلثوم غنَّت هنا، ولا يعرفون تاريخ المرفأ الجميل. الناس العاديون لا يفهمون حتى التناقض الكامن والتشويه المزروع عند كل زاوية. الشوارع فيها باردة، لا تشهد صخب المدن المعهود. ينتاب المار فيها شعور بعدم الارتياح. غضب من الحاضر، وحتى الحنين إلى الماضي لا يعني شيئاً في مثل هذه الحالة. يدرك الزائر أنَّ الحياة في المدينة مقاومة. يافا، ببساطة، لم تعد كما كانت.
ماذا كانت المرأة الاشكنازية التي «تقطّع قلبها على سديروت»، ستقول عن يافا؟


عجز ولَّد التخدير
يعكف سامي ابو شحادة، على تحضير رسالة دكتوراة عن تاريخ يافا. قال إنه أجرى لقاءات مع سكان يافا الأصليين، أخبروه «رواية عن مأساة» حين كان الفلسطيني يذهب إلى بيته بعدما سكنه المهاجر الجديد ويطلب منه مستنداً أو صورة على الحائط.
لم تعد الأملاك التي استولى عليها اليهود كافية للمهاجرين، وسعت السلطات الصهيونية إلى إسكان مهاجرين في العجمي أيضاً، ليس فقط في المبنى نفسه إنما في البيت نفسه.
كانوا يقسمون البيت بين العربي الذي فقد ملكه في الشق الثاني من المدينة، وبين اليهودي القادم من بعيد. ويشير ابو شحادة الى أن اليهودي في ذلك اليوم كان «عدواً بكل ما تعنيه الكلمة»، والرجل العربي يعاني الإحباط ويرى أنه فشل في الدفاع عن الوطن وعن الأملاك وعن بيته: «تخيل هذا الإنسان، العربي، تقليدي التفكير، حين يفشل في كل شيء وفي الدفاع عن بيته».
ويشير ابو شحادة الى أن هذه الحال، قادت عدداً لا بأس به من الرجال إلى استعمال المخدرات والأفيون. وهكذا تحوّل حي العجمي، من حي الطبقة الوسطى، إلى حي فقير ومستهدف.
ابو شحادة يمنح الواقع صيغة تاريخية. فالإجرام المتفشي في مدينة يافا، واعتبارها مرتعاً لتجار المخدرات لم يأت صدفة. لأنَّ في القضية صيغة تاريخية تلاحق المكان منذ زمن. بين عجز الماضي، وبؤس الحاضر، يتفشى الإجرام على أشكاله.