غزة | لو أنّه يملك كلفة إيجار طريق العودة إلى مخيم اليرموك، لما بقي ثانية واحدة في غزة، يُغني ليلاه على وظيفة حكومية وثلاث شقق يمتلكها هناك. الآن، هي مهجورة وفارغة، في حين أنّ صاحب هذه المونولوجات الحزينة يبذل قصارى جهده هنا لتحصيل مستحقات ايجار بيته الصغير وملحقاته الأخرى! أوجاع تكتنف قلب العم أبو نضال، ليأتي قرار توقيف عقد التشغيل الموقت للاجئين العرب ويزيد طينه بلّة على قلب صاحبنا، محملاً إيّاه من الأعباء ما لا يطيق!
قد يجد ملاذه في البكاء على الأطلال، متغنياً بحنينه الى مخصّصاته الاجتماعية هناك: "كان راتبي خمسة عشر ألف ليرة سورية، يعني تلاتميت دولار أميركي، وكان عندي أوفر تايم (اضافي)، كنت باخد بالساعة الواحدة 2 دولار، كمان عندي مكتبة وكنت بسترزق منها، وكانت ماشيه".
ولأنّ سيناريوهات الحسرة لا يكتمل نصابها من دون مقارنات "تفشّ الغل"، راح وباستفاضة شديدة، يروي حال زوجته التي تعمل في حضانة أطفال، مشيراً إلى أربعمئة شيكل (مئة دولار) تتلقاهم أم نضال مقابل دوام يومي يبدأ في السابعة صباحاً وينتهي عند الثانية ظهراً، هو أجر بنظره "لا يرضي أحداً لمشاق مهنتها وضآلة راتبها". ولكن ما يجعل العمل مرضياً إلى حد ما، كونه يسد احتياجاتها الأنثوية البسيطة، وتخفف بها عن كاهل زوجها، كحال نظيراتها من زوجات اللاجئين العرب الذين لاذوا بالفرار عقب تأزم الأوضاع الأمنية في بلادهم.
والحال ذاته تتكرر، حسرة ورغبة شديدة في العودة إلى بلادهم رغم مصابها، والسر يكمن لديهم في أن عودتهم ستكفل لهم العودة لممتلكاتهم ووظائفهم، وبالذات ايقاف ركضهم خلف من يؤمّن لهم متطلبات المعيشة والحياة الآمنة، وهذا حق طبيعي لأي انسان في هذا العالم لا خلاف عليه!
يبدو الأمر مأساوياً، وهو بالفعل كذلك، لا سيما بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة الصيف الماضي، ما جعل المكان بالكاد قادرعلى النهوض من تحت انقاض الحرب، وتحمّل أعباءه الأساسية أولاً، وعليه لا يجوز لومه على أي تقصير، طالما أنّه يقع حبيس حصار من كل صوب وجانب. إنما يوجّه السؤال للجهات الدولية التي تُنصّب حماية اللاجئ الفلسطيني هدفاً رئيسياً من أهدافها، عن واقع ما قدمته حيال أمر هذا اللاجئ الجديد في غزة، وإن كانت تنوي تنفيذ خطة طارئة، تمنحهم الفرصة للتكيّف مع واقع غزة ولو بالحد الأدنى؟!
وبالذات لو تم تأمين مسكن خاص لأولئك اللاجئين، وهم ثلاثمئة وستون عائلة فقط، اي انه ليس بالعدد الكبير، بحيث يصعب احتضان أزمته، وهو ما تسعى لتأمينه هذه الأيّام جمعية "حقي" كممثلية للاجئين العرب في غزة، وهي أوّل جمعية تسعى في هذا المضمار!
تفاصيل تقلّب المواجع، برغم أنّها وللوهلة الأولى تبدو معادة، حتى أنّ فرد هذه الصفحة للكتابة عنها في الواقع لا يتعدّى كونه واجباً لا يخفي خلفه الكثير من الأمل. ولكن، في الوقت ذاته ربما يكون الأمر دعوة للمشاركة في الوقوف على همّ أصيل، يعود بالقضية الفلسطينية إلى لحظة النزوح الأولى.
بالأمس كان النزوح إلى الخارج، اليوم النزوح إلى الداخل، في الغد إلى أين النزوح؟