معاريف ــ بن كاسبيت
زرعت لجنة فينوغراد الكثير من الأشجار لكنها لم تغرس حُرشاً. عندما يستخدمون جذر فشل مرات كثيرة بمثل هذا الحد يبقى الفشل يتيماً. التقرير الانتقالي الذي نشرته اللجنة في الثلاثين من نيسان 2007 حوَّل أولمرت إلى مجرم قومي محكوم بالإعدام، جثة سياسية تنتظر دفنها بصمت. وها هو التقرير النهائي يبرهن أن هذا القبر غير موجود وأن المحكوم بالموت قد هرب

التقرير النهائي للجنة فينوغراد كان باهتاً، تقزّم في مواجهة التوقعات التي بُنيت على التقرير الأولي، ومنح أولمرت حياة جديدة. وإن كانت اللجنة قد رغبت من خلال التقرير الأول في إسقاط أولمرت بأي ثمن، تقريباً، فإنها قد حاولت في التقرير الثاني وبالحماسة نفسها إنقاذه. المحاولة الأولى فشلت، والثانية نجحت.
هناك شيء ما قد أصاب أعضاء اللجنة بين التقريرين. ربما أصبحوا أكثر اطمئناناً مثلنا جميعاً بعد فترة الانفعال. وكان من المفترض أن يظهر تقريرا لجنة فينوغراد بصورة معاكسة. كان من المفترض أن يكون التقرير النهائي بدلاً من التقرير الانتقالي وبالعكس. كان من الأفضل لو نشرت اللجنة تقريراً واحداً فقط ولو تواضعت واكتفت باستنتاج واحد أكثر حزماً وأكثر عمقاً: أن المستويين السياسي والعسكري قد فشلا. لو حدث هذا الأمر لكان على أولمرت أن يغادر.
لكن ذلك لم يحدث. النجاح ولد من الفشل الذي أشار إليه التقرير الأولي. إذا كان ناقص وناقص يساويان زائداً، فإن الربط بين 300 ناقص يعطينا أولمرت واحداً كبيراً. في وقت لاحق تبيّن أن قرار أولمرت التوجه إلى لجنة تقصّي الحقائق الحكومية وليس لجنة تحقيق رسمية كان صحيحاً، من وجهة نظره طبعاً. محكمة العدل العليا عرقلت اللجنة في الوقت المناسب، والصراعات الداخلية بين أعضائها أفقدتها قوتها الباقية، وفي آخر المطاف بقي أولمرت حياً يرزق.
رغم ذلك، يستحق إيهود أولمرت أن نقول عنه كلمة واحدة طيبة: هو تجول عاماً ونصف العام مع لائحة اتهام ثقيلة تقول إنه أرسل جنود الجيش الإسرائيلي إلى العملية الأخيرة لأسباب سياسية أو شخصية من أجل التحايل والمناورات. لجنة فينوغراد برَّأته من هذا الاتهام براءة كاملة. فرحته في هذه القضية مبررة. هذا الأمر لم يحدث. إذا كان على اولمرت أن يستقيل، فإن ذلك يأتي بسبب آخر. من حسن حظ أولمرت أن أعداءه علّقوا كل شيء على الستين ساعة الأخيرة، وعندما تلاشى ذلك تبدد كل شيء. هذه هي الكلمة الطيبة التي ندين بها لأولمرت وهي تأتي من كل قلبي. لكن أيضاً هذه الكلمة الطيبة الوحيدة التي ندين بها لأولمرت بعد تلك الحرب.

ليلة التعالي

حكاية تلك الحرب أبسط بكثير مما يظهر في مئات الصفحات التي أعدّتها لجنة فينوغراد. قرار الرد بقوة على اختطاف الجنديين والهجمة النارية الشديدة التي شنّها حزب الله في الثاني عشر من تموز 2006 كانت حسب رأيي صحيحة. هي كانت أيضاً القرار الصحيح الوحيد الذي اتخذه أولمرت ـــــ بيرتس ـــــ حالوتس. كل شيء تشوّش منذ تلك اللحظة.
المشكلة الكبرى في حرب لبنان الثانية تكمن في الليلة الأولى، وهي الأهمّ بالنسبة لسلاح الجو، النجاح في إبادة كل ذراع (الأمين العام لحزب الله السيّد حسن) نصر الله الاستراتيجية خلال ثلاثة أرباع الساعة، وهو ما حوَّل غطرسة دان حالوتس الطبيعية الى تعال لا يطاق.
أنا ومن بعدي الطوفان. الطوفان كان في هذه اللحظة هو بيرتس وأولمرت أيضاً. لذلك بدلاً من استدعاء الاحتياط في اليوم التالي وإعدادهم، وفقاً للخطط، لعملية برية كبيرة، قرّر حالوتس إحراز النصر في هذه المعركة من الجو، وأنها صغيرة عليه، ومع مرور الوقت ازداد الإحباط. في آخر المطاف، عندما أدرك حالوتس وأولمرت أيضاً أنهما يسيران نحو الخسارة بدلاً من الانتصار، حاولا إحراز هذا الانتصار بالقوة. هذا كان انتصاراً قليلاً جداً ومتأخراً جداً وهذا ما يبدو عليه.
الآن لم يعد حالوتس وبيرتس موجودين. وماذا عن أولمرت؟ هو هنا. لو كان أولمرت مديراً طبيعياً لطار مثل صاروخ «القسام» غداة وقف إطلاق النار. لكنه ليس مديراً عاماً، وطبيعته مغايرة تماماً. هو استطاع اجتياز لجنة فينوغراد.

البيان الذي لم يكن

الجيش الإسرائيلي «لم ينتصر» في هذه الحرب لأنه لا يمكن الانتصار في حروب كهذه. عندما يخوض جيش كبيرٌ متثاقل نسبياً المعركة ضد مئات من مقاتلي حرب العصابات المدربين جيداً والمتمترسين في خنادقهم، غير المرئيين والمسلحين كما يجب، يجب القيام بأمر من اثنين: إما احتلال كل المنطقة وتطهيرها شبراً شبراً خلال أشهر طويلة حتى آخر مخرب، أو شن عمليات مركّزة واستخدام روافع القوة الاستراتيجية لاستعراض صورة من الانتصار بثمن معقول وزمن منطقي.
حتى إيلي يشاي، الوزير الذي يفتقر للرؤيا العسكرية المهنية، أدرك ذلك عندما طالب خلال كل الحرب بإلحاق الأذى بشكل ملموس في البنية التحتية اللبنانية و«مسح القرى». لكنه عارض العملية البرية الكبيرة التي تقررت في الساعات الأخيرة. قال يشاي، في المجلس الوزاري، «لدينا هنا حربان، نصر الله أحرز الانتصار في الحرب النفسية، أما الحرب على الأرض فلم نعد قادرين على كسبها».
لكن ما أدركه يشاي وموفاز وغابي اشكنازي، لم يفهمه إيهود أولمرت وعامير بيرتس حتى اللحظة الأخيرة. هما وقعا أسيري سحر دان حالوتس. هذه الثلاثية سارت بين الإخفاقات معاً، وأخذت تصحو رويداً رويداً في مواجهة الواقع المتردي للصواريخ التي تنزل على العمق بوتيرة مئتي صاروخ في اليوم. هذا الوضع، لشدة الهول، لم يعدّ «حرباً» من جانب حكومة اسرائيل، لم يكن هناك إعلان عن حرب أو قرارٌ بأننا في حالة حرب، ولم يكن هناك دخول منظم لهذه الحرب. هذه هي الحكاية كلها. لأنه لو أعلن أحدٌ ما الحرب فلربما تصرفنا كأننا في الحرب. ولاستخدمنا مثلاً مقر هيئة الأركان (المقصود به ذلك الموجود تحت الأرض).

استيقاظ

في آخر المطاف، هذه الحرب كانت جيدة لإسرائيل رغم التعثر الذي أصاب قادتها، وبسببها ربما استيقظنا من غفوتنا فزعين خائفين. هي هزة السفينة كلها لمدة قصيرة قبل الاصطدام بكتلة الجليد. تخيلوا بأنفسكم لو أن أولمرت أمر بعد عملية اختطاف الجنود بشن هجمة جوية أو اثنتين على لبنان وتوقف؟ ما الذي كان سيحدث؟ لا شيء طبعاً. الجنود المخطوفون لم يكونوا ليعودوا في تلك الحالة لأن نصر الله كان سيتلاعب فينا وينكّل بنا كعادته لسنوات عديدة لاحقة. الجيش الإسرائيلي كان ليواصل تعفنه بوتيرة متزايدة. ولبقي حالوتس رئيساً لهيئة الأركان وبيرتس وزير الدفاع، ولبقينا جميعاً في وهم «الجيش الأقوى في الشرق الأوسط»، من دون أن نعرف أن قوة دولة إسرائيل تتطاير مثل الغبار بينما ينظم الإسلام المتطرف صفوفه وراء جدارنا وتندفع إيران نحو الذرة. ولواصلت وزارة المالي، بدعم الجمهور ووسائل الإعلام، تقطيع اللحم الحي. الاحتياط كانوا سيتدربون مرة كل جيل، والدبابات يعلوها الصدأ. يكفي أن هناك سلاح جو لدينا.
كل هذه الأمور كانت لتواصل حدوثها تحت أنوفنا إلى أن تأتي الهزة الأرضية الكبرى. وعندئد، سيكون التصادم مع حزب الله اشدّ، وإيران النووية من وراء ظهره، وعندها سيصبح من المتأخر جداً إصلاح أي شيء. حرب لبنان الثانية أنقذتنا بعض الشيء. هذا شيء لم تقرره لجنة فينوغراد لكنه رأيي الشخصي فقط.

الإسرائيلي الليّن

رغم أن تقرير فينوغراد لم يتضمّن توصيات شخصية وافتقر للخلاصة، إلا أنه كان تقريراً مهماً، إذ يرسم ملامح الفشل الاستراتيجي الإسرائيلي ومواقع الخلل في عملية صنع القرار. كذلك يتطرق، ولو بدرجة غير كافية، للمشكلة الاجتماعة وحقيقة أن إسرائيل لا تستطيع تحمل الخسائر بالأرواح، وأن المجتمع الإسرائيلي مجتمع منعّم ومشرذم.
مناحيم عينان، عضو اللجنة، كان قائد الفرقة في حرب سلامة الجليل الأولى. عينان هو غال هيرش اليوم. هو لم يصل إلى طريق بيروت ـــــ دمشق في الوقت الملائم وفقد عدداً من الجنود أكثر من هيرش، لكنهم سمحوا له على الأقل بأن يقاتل. لو أن لجنة عينان اليوم حققت في عينان الماضي لأوصت بإقالته.
لكن ليست هذه هي الحكاية. الحكاية هي أنه لو اندلعت حرب حزيران بالأمس لأوقفها الجمهور ووسائل الإعلام ومنظمة (أربع أمهات) بهستيريا. في حرب حزيران قُتل 200 مقاتل في اليوم الأول. ثمنٌ فادح من الذي يمكنه أن يتحمّل مثله اليوم؟ هذا مثلاً ثمن احتلال غزة. فهل نحتل غزة؟ لا. يفضلون أن تبقى سديروت، ولاحقاً عسقلان، أنقاضاً على أن نفعل ذلك.