حسام كنفاني
مخاوف عسكريّة مـن تكلفة عالية وحرص سياسي على بقاء الوضع الراهن

منذ انتهاء المؤتمر الدولي للسلام في أنابوليس، لم يتوقف الحديث الإسرائيلي عن عدوان على غزة. حديث تراوح بين «الجهوزية» و«التأجيل». إلا أن مواكب الشهداء اليومية في القطاع خلال الأسبوعين الماضيين تدلل على أن شيئاً ما تغيّر في التعاطي الإسرائيلي مع السيطرة «الحمساوية» على غزة.
فصائل المقاومة في القطاع، وفي مقدّمها «كتائب عز الدين القسام»، قرأت التغيير وباتت تعلن يومياً استعداداتها للتصدي للعدوان المرتقب، والذي تعدّه «إحدى ثمار أنابوليس»، وهي تلمّح إلى غطاء عربي ودولي للعملية الإسرائيلية المنتظرة.
إلا أن لأي عدوان واسع على قطاع غزة حسابات لدى الأطراف المعنية تأخذه في اعتبار أي خطوة قد تقدم عليها في هذا الإطار، ولا سيما أن تداعيات أي عدوان لن تقتصر على غزة، وستطال الضفة الغربية والدول المجاورة، ولا سيما مصر.
الموقف الإسرائيلي من العدوان على غزة، باعتباره المعني الأبرز فيه، مبني على حسابات الربح والخسارة الذاتية في الدرجة الأولى، وفي مرحلة لاحقة انعكاساته على أطراف أخرى فاعلة على الساحة الفلسطينية، سواء عسكرياً أو سياسياً أو تفاوضياً.
في المستوى العسكري، من المؤكّد أن الحكومة والجيش الإسرائيليين يضعان أمامهما مروحة من الخيارات في كيفية التعاطي مع عمليات قصف المستوطنات المحاذية لقطاع غزة شرقاً وشمالاً، على أن تجري دراسة كل منها وفق المصالح السياسية والميدانية.
وإذا كان خيار العملية العسكرية الواسعة والشاملة، التي قدّ تؤدّي إلى إعادة السيطرة الإسرائيلية مرحلياً على قطاع غزة، يحكم توجهات اليمين الإسرائيلي، باعتبار أنه قد يؤدّي إلى القضاء على حركة «حماس» كلياً وإزالة التهديد الذي تمثّله على الجبهة الجنوبية الإسرائيلية، إلا أنه يحمل معطيات سلبية ميدانية وسياسية لا تخدم توجهات الدولة العبرية.
فالدخول إلى قطاع غزة، المعروف بكثافته السكانية العالية وطبيعة بناه الهندسية لجهة تلاصق مدنه وأحيائها وأزقتها، يحمل معطيات خطيرة للجيش الإسرائيلي، رغم إعلان رئيس الأركان غابي أشكينازي «جهوزية» قواته لشنّ مثل هذه العملية، وخصوصاً أن التقديرات الإسرائيلية متفاوتة بشأن مدى استعدادات المقاومة لوجستياً لمثل هذه المواجهة.
ولا بد أن تجارب سابقة يضعها الجيش الإسرائيلي في حساباته قبل إصدار قرار نهائي بالدخول إلى القطاع. والعدوان الأخير على لبنان قد يكون أبرز مثال. ورغم تفاوت القدرات العسكرية لحزب الله في مقابل فصائل المقاومة الفلسطينية، إلا أنها تعطي مثالاً حيّاً على قدرة الجيش الإسرائيلي على الدخول في حرب شوارع حقيقية في قطاع غزة. وإذا كانت الطبيعة الجغرافية للجنوب اللبناني، الصيف قبل الماضي، قد سمحت للجيش الإسرائيلي بهامش مناورة محدود على الأرض، فالأمر لن يتوفر في قطاع غزة. ولعل معارك مخيم جنين خلال عدوان السور الواقي في عام 2002 أبرز النماذج التي يعتمدها الجيش الإسرائيلي في تقديراته، إذ تمكّنت حفنة من المقاومين حينها من الصمود في وجه آليات وعتاد الجيش الإسرائيلي، الذي خسر 12 من جنوده في المعركة، التي كرّست باعتراف التحليلات الإسرائيلية «أسطورة فلسطينية جديدة قائمة على فكرة النصر أو الموت»، وخصوصاً أن جيش الاحتلال لم يتمكن من الدخول إلى المخيم في الرابع من نيسان 2002 إلا بعد تدميره كلياً.
بين معارك جنين أو «جنينغراد»، كما كان يحلو للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تسميته، واليوم، معطيات كثيرة تغيّرت، سواء بالنسبة إلى أساليب القتال أو العتاد الذي تمتلكه المقاومة الفلسطينية، إذا صحّت التهم الإسرائيلية عن كميات تهريب الأسلحة التي تجري إلى قطاع غزة عبر الأنفاق على الحدود مع مصر. وبالتالي، قد يجد الجيش الإسرائيلي، الطامح إلى تعديل صورة الهزيمة في عدوان تموز على لبنان، نفسه عالقاً في مستنقع جديد لا يمكن الخروج منه بنصر واضح، ما يعزّز موقف الفصائل الفلسطينية المقاومة، ويُحكم قبضتها على قطاع غزة.
أمام هذه المعطيات العسكرية المطروحة على ساحة البحث الإسرائيلي، قد يكون خيار العدوان الواسع «مؤجلاً»، كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك أول من أمس، والبحث سيكون عن خيارات بديلة، منها ما هو مطبّق حالياً، وهي سياسة تصفية عناصر الفصائل الفلسطينية تدريجاً وعلى مراحل طويلة الأمد، وربما تصعيد التصفيات إلى كوادر عسكرية وسياسية من الدرجة الثانية.
والخيار الأقصى الذي من الممكن أن يلجأ إليه الجيش الإسرائيلي في المرحلة الحالية، هو القيام بعمليات اجتياح برية قصيرة المدى من الشرق والشمال لإنشاء حزام أمني بعمق كيلومترات قليلة، للحد من قدرة الصوراريخ على إصابة أهدافها، إضافة إلى تجنّب الخوض في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، وبالتالي الحد من خسائر المواجهة الشاملة.
وبالحسابات السياسية، لا تبدو أن هناك مصلحة إسرائيلية مباشرة في إنهاء الوضع القائم في غزة وإعادته إلى «شرعية» السلطة الفلسطينية.
فرئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت ربط في أكثر من مناسبة، بين سيطرة «حماس» على القطاع والانتقال مع السلطة الفلسطينية إلى مفاوضات الوضع النهائي، على اعتبار أن «الوضع الإرهابي» القائم في القطاع يخالف بنود المرحلة الأولى من «خريطة الطريق»، التي اعتبرها مؤتمر أنابوليس أساساً للمفاوضات الفلسطينية ـــــ الإسرائيلية.
وبالتالي، فالمصلحة التفاوضية الإسرائيلية تقتضي إبقاء وضع غزة ذريعة للمماطلة، ورمي الكرة في ملعب الرئيس الفلسطيني العاجز عن حسم الصراع مع «حماس» سياسياً أو عسكرياً.
والمرجّح في المرحلة المقبلة سعي إسرائيل إلى معالجة مفاعيل عمليات إطلاق الصواريخ من غزة بعمليات موضعية، لا تكلّف جيش الاحتلال، مع الحرص على إبقاء وضع غزة على ما هو عليه.



قد يجد الجيش الإسرائيلي، الطامح إلى تعديل صورة الهزيمة في عدوان تموز على لبنان، نفسه عالقاً في مستنقع جديد لا يمكن الخروج منه بنصر واضح، ما يعزّز موقف الفصائل الفلسطينية المقاومة، ويُحكم قبضتها على قطاع غزة