حيفا ـ فراس خطيب
تكشف الأيّام فصولاً جديدة عن الأساليب التي استطاع من خلالها العقل المدبّر الإسرائيلي القيام بعمليات نقل لأعداد كبيرة من اليهود العرب إلى فلسطين المحتلّة في منتصف القرن الماضي، مستفيداً من التضييق الذي كان يُمارَس على هؤلاء. ونشرت صحيفة «هآرتس» أمس قصّة «الصفقة» التي هندسها دايفيد ليتمان وتمّ بموجبها نقل مئات الأطفال اليهود المغاربة إلى إسرائيل تحت غطاء «رحلة ترفيهية» إلى سويسرا.
يبدأ ليتمان برواية القصّة من البداية: ففي صيف عام 1961، خطّط الموساد الإسرائيلي لتهريب مئات الأطفال اليهود من المغرب إلى الدولة العبرية تحت غطاء «رحلة إلى سويسرا». خطّة كان من أبرز منفّذيها ليتمان نفسه، اليهودي من أصل بريطاني والذي يعيش في سويسرا. وهو قام بهذه المهمّة «تطوّعاً لأبناء شعبي» على حدّ قوله. وعمل ليتمان مع الوكالة اليهودية من دون أن يعي أنّه كان جزءاً من حملة منظّمة للموساد. وعندما انتهت الحملة التي أطلق عليها «حملة موراي»، (كلمة فرنسية معناها جدارية) لم يتلقَّ ليتمان حتّى رسالة شكر من السلطات الإسرائيلية.
ويلفت ليتمان إلى أنّه طرق باب الكثير من المؤسّسات اليهودية ليعرض عليها المساعدة، إلى أن وصل إلى منظّمة تدعى «OSE»، كانت مهمّتها «إنقاذ الأطفال اليهود أثناء المحرقة وبعدها». ولقي ليتمان ضالّته عندما توجّه مبعوث الوكالة اليهودية في سويسرا، نفتالي بار غيورا، قبل يومين من وصول ليتمان، إلى المؤسّسة المذكورة، وتحديداً إلى مديرها جاك بلوخ، الذي طلب مساعدته للعثور على متطوّع لـ«مهمّة سرية لإخراج أطفال من المغرب»، وهو ما جعل ليتمان «هديّة من السماء» بالنسبة لبلوخ.
في تلك السنوات، عيَّن الموساد الإسرائيلي غاد شاحر مبعوثاً له في المغرب. وقال شاحر: «خلال فترة الحملة كلّها، لم يعرف ليتمان أصلاً أنّه يعمل لمصلحة الموساد، لقد اعتقد بأنه يعمل للوكالة اليهودية». وأضاف «اعتقد ليتمان أنّ مئات الأطفال اليهود وأهاليهم الذين طرقوا باب مكتبه جاءوا في أعقاب الإعلانات في الصحف المغربية (عن العطلة في سويسرا). هذه الإعلانات كانت هامةً من أجل الغطاء فقط».
ويذكر ليتمان أنّ تجنيد الأطفال اليهود للهجرة إلى الدولة العبرية كان «مهمة صعبة»؛ فبالإضافة الى «عقبة السلطات المغربية»، كان من الصعب على الأهالي السماح لأبنائهم بالسفر وحدهم. ومن أجل تجاوز العقبة، وعد مبعوثو «الموساد» العائلات بأنّ كلّ من يرسل ابنه، سيكون صاحب الأولوية ضمن حملة «المهاجرين البالغين».
ثمّ واجه «الموساد» مشكلة أخرى تتعلّق بمصير الأطفال المسلمين الذين سجّلوا لـ«الرحلة إلى سويسرا». وكشف ليتمان للصحيفة عن الوسيلة: «لكي تبدو القصة حقيقية، طلبنا من الأهل مشاركة رمزية مقدارها 10 فرنكات لليوم الواحد في العطلة. ورغم أنّ المبلغ رمزي وزهيد، أراد الأهالي المغربيون المسلمون التفاوض على السعر. وعند انتهاء المفاوضات، كانت الحملة (نقل الاطفال اليهود) قد انتهت»، لأنّ الرحلات كانت تتمّ على مراحل في الوقت الذي كان المفاوضون يمرّرون الوقت بالتفاوض.
حتى بعد أن تمّ تجاوز عقبة «الأطفال المسلمين»، أثارت الحملة شكوك السلطات المغربية، وخصوصاً أن كل المشاركين في «الرحلة» كانوا من اليهود. فعندما وصلت قائمة المشاركين إلى قائد شرطة الدار البيضاء للتوقيع عليها، انفجر غضبه، وقال لليتمان: «أنت تعرف أنَّك شريك في مؤامرة صهيونية، وكل الأسماء هنا هي أسماء يهودية».
وقالت الصحيفة إنّ ليتمان سارع مباشرة إلى لقاء أحد مسؤولي الأمن المغربي، الذي كان على علاقة اجتماعية قديمة معه وشكا له «قائد الشرطة». عندها، أمر مسؤول الأمن، صديق ليتمان، بالمصادقة على القائمة. وخرجت الحملة في طريقها.
العقبات أمام نجاح الرحلة لم تتوقّف عند هذا الحدّ. كان واضحاً أنه لا يمكن نقل مئات الأطفال الذين سُجّلوا دفعة واحدة. لذلك، كان من المفترض نقل 630 طفلاً إلى فرنسا بعد تقسيمهم إلى ست مجموعات، ومن هناك إلى سويسرا لقضاء أسابيع، ومن بعدها إلى إسرائيل.
بدأ الأطفال القادمون من المغرب التمركز في سويسرا في بيوت استضافة، إلا أنّ مبعوث «الموساد» رأى أنَّ قضاء وقت في سويسرا ما هو إلا تبذير للأموال، وقرّر أن يسافر الأطفال مباشرة إلى اسرائيل بعد وصولهم الى مطار ميرسي الفرنسي.
الصفقة لم تبقَ سرية، بل خرجت إلى الإعلام الإسرائيلي. لكن لـ«حسن الحظ»، بقي النقاش الاسرائيلي داخليّاً، وقد أدّى الكشف المبكر عن الحملة الى وقفها وإلغاء الرحلة الأخيرة منها التي تضمّنت 100 طفل تقريباً. وكان قد وصل الى إسرائيل 530 طفلاً مغربياً.
انتهت الحملة في كانون الثاني عام 1961. وبعد شهرين من اتمامها، توصّلت السلطات الاسرائيلية إلى اتفاق سرّي مع السلطات المغربية دفعت اسرائيل بموجبه 100 دولار في مقابل كل مهاجر. وكان قد هاجر المغرب ما يقارب الـ100 ألف يهودي بين عامي 1962ـــــ1964، من ضمن حملة منفصلة عن حملة الأطفال هي حملة «يخين» في صفقة عُقِدَت بين الإسرائيليّين والمغاربة.
وكتب الصحافي شموئيل سيغف، الذي نشر كتاباً عن حملة «يخين» (1962ـــــ1964)، أن «حملة موراي كانت من بين الدوافع التي أقنعت الملك حسن الثاني بأنّ بلاده مخترقة في جميع الأحوال من الاسرائيليّين، ومن الأفضل له التوصّل إلى اتفاق يخدم مصالحه. فقد كان حاكماً جديداً، له أعداء، وكان بحاجة إلى مساعدة. زوّدناه بالمال والمعلومات عن خصومه في البيت، وساعدناه في الترتيبات الأمنية».