■ بداية، أصبحت تونس في واقع سياسي جديد، خصوصاً بعد الدور الكبير الذي لعبه "الاتحاد" خلال أزمة عام 2013. أين أنتم اليوم ضمن هذا المشهد؟
كما تعلم ويعلم الجميع، الاتحاد العام التونسي للشغل أخذ على عاتقه إدارة الحوار الوطني بالرغم من الصعوبات والعراقيل التي وجدت قبل الحوار وأثناءه. إلا أنه في نهاية المطاف استطاع تحقيق الهدف المرجو، فأخرج البلاد من الأزمة... (بعد) التوافق على خارطة الطريق (التي نُفّذت تباعاً).

الأساس في هذا كله هو عبور تونس للانتخابات (التشريعية فالرئاسية)... ونحن الآن في صدد بناء جمهورية ثانية أساسها الديموقراطية في التعامل... طبعاً، نحن كمنظمة نقابية، بعدما أتممنا هذا الإنجاز الذي بمقتضاه أخرجنا بلادنا من المخاطر التي تردت فيها، لم تكن لنا غاية في الاتحاد العام التونسي للشغل في أن تكون لنا منافع أو مكاسب سياسية؛ نحن منظمة اجتماعية في الأساس... ونحن الآن نتابع عمل الحكومة طبعاً. نحن في "الاتحاد" لسنا معنيين بالاستحقاقات السياسية، ولو كنا معنيين لما كان يمكن للأحزاب أن تضع ثقتها بنا. كنا بعيدين بالمسافة ذاتها عن كل الأحزاب (في الحكم أو في المعارضة)، ونحن شعارنا دائماً: لا صداقة قائمة ولا عداوة ثابتة مع أي حكومة...

■ شهدت تونس في الفترة الأخيرة العديد من الإضرابات (النقل والتعليم الثانوي). البعض كان يتساءل عن مدى تأثير "الاتحاد" في هذه الإضرابات

يؤثّر في ماذا؟

■ نقصد التأثير في مسار هذه الإضرابات

اتركني أقل لك إنّ الإضراب حق دستوري مضمون، وإن الإضراب هو سلاح ذو حدين، وإن "الاتحاد" لا يلتجئ إلى الإضرابات إلا بعد فقدان كل سبل الحوار. فإن تعطَلَ الحوار في المسارات المتتالية، طبعاً هنا لا يبقى أمام العمال إلا اتخاذ الإضراب منهجاً لتحقيق المطالب المشروعة.
الآن بعد الانتخابات، الإضرابات قلّت، لم تشهد وتيرة متصاعدة. الاستثناء كان في (قطاع) النقل. لكن لو تعود إلى الأسباب الحقيقية، (لوجدت) أنه كانت قد وقعت حوارات في جلسات سابقة انتهت بإمضاء (توقيع) اتفاقية خاصة تحقق بعض المطالب لعمال النقل، ولكن السلطة تراجعت في ما أمضت (وقّعت) عليه. ولذا، السبب ليس هو تنكر عمالي بقدر ما هو تنكر من الحكومة التي أمضت على اتفاق ومن ثم تراجعت فيه. هذا أولاً لا يعطي للتفاوض مصداقية ولا يعطي للحوار الاجتماعي مكانه الطبيعي، ورد الفعل أو الإضراب الذي وقع في النقل هو من أجل تطبيق تلك الاتفاقية... وفعلاً قد أثّر هذا الإضراب لأن قطاع النقل حيوي. لكن نحن تبنيناه لعدم التنكر لمطالب عمالنا، لأن لهم الحق في الإضراب... ومن بعد طلبنا من النقابة العودة إلى العمل، وفعلاً استجابت لطلب "الاتحاد" وعادت، وعدنا إلى الحوار من جديد وشرحنا أنه ما كان على الحكومة التراجع في ما اتفق عليه. وبطبيعة الحال، استجابت ونفذت الاتفاقية، وبالتالي انتهى مشكل النقل، والآن العمل في قطاع النقل يسير بشكل طبيعي وعادي.
آتي الآن إلى إضراب التعليم الثانوي. هو إضراب وقع (لوضع خطة أو استراتيجية لتحقيق جملة من مطالب قطاع التعليم الثانوي)... لم تبدأ بعد الانتخابات، ولكن كانت قبل الانتخابات، ونفذت العديد من الإضرابات مع حكومة التكنوقراط السابقة، ولكنها لم تستجب. الحكومة الحالية الآن تقول نحن نعرف جيداً أنّ الوضع المادي لأساتذة التعليم الثانوي متدهور، وتعرف هي جيداً أن أستاذ التعليم الثانوي أجره ضعيف مقارنة بنظرائه... وترى أن هناك مظلمة حاصلة فعلاً لقطاع أساتذة التعليم الثانوي. الآن نحن في صدد إجراء حوارات مع رئيس الحكومة وننتظر في الأيام المقبلة، سيعود (عودة) التفاوض وسنغتنم فرصة عطلة الربيع لإنهاء هذا الإشكال القائم.
المتتبعون أو المناوئون، دعني أقل ذلك، هم دوماً يبحثون عن النقاط التي من خلالها يشنجون العلاقة بين "الاتحاد" والحكومة الحالية. ولكن نحن رشد، نعرف ما لنا وما علينا ونعرف كيف نتصرف، وبالتالي مثلما وجدنا حلولاً لكل المشاكل التي قامت في بلادنا سنتوصل إلى إنهاء هذه المشكلة. ونحن بدأنا فعلاً التفاوض في زيادة للأجور بالنسبة إلى العاملين بعنوان سنة 2014 واتفقنا على أساس أن ننهي هذه الجولة من المفاوضات في نهاية هذا الشهر، لنبدأ في بداية الشهر المقبل جولة جديدة ستنظر في زيادات في أجور العاملين في القطاع العام والوظيفة العمومية بالنسبة لسنتي 2015 و2016...
نحن واعون إلى أنّ البلد يمر بفترة اقتصادية صعبة، ونحن ساعون مع كل الأطراف لإيجاد الحلول... ولكن دعني أقل إنه ما زالت هناك بعض الانفلاتات القائمة، لا علاقة لـ"الاتحاد" بها، وإن كان بأغلبها هي أيضاً مشروعة...
أحزاب وعدت في برامجها بأن تبدّل الشتاء ربيعاً، والآن يتحملون مسؤولية ذاك الخطاب

(عموماً)، كل الأحزاب خلال حملتها الانتخابية أقرّت بأن هناك ارتفاعاً كبيراً في الأسعار وبأن هناك تدهوراً في القدرة الشرائية، وأقرّت بأن منسوب البطالة مرتفع، وأقرّت أيضاً بأن للناس حقوقاً يعود إلى الدولة تحقيقها، ووعدوا في برامجهم الانتخابية على أساس أن يبدلوا الشتاء ربيعاً، والآن يتحملون (يتحملوا) في مسؤولية ذاك الخطاب الذي كله أمل وكله عزم على إنجاز ما لم ينجزه الآخرون. نحن متفهمون للوضع، ولكن نأمل أنه بالحوار وبالثقة المتبادلة وبدراسة الأوضاع على حقيقتها، بالشكل هذا يمكن لبلادنا أن تمر بسلاسة وبسلام إلى مرحلة أفضل من المرحلة التي سبقت.

■ معروف في تونس، تقليدياً، أنّ الاستقرار أساسه التوافق بين "الاتحاد" والحكومة، لكن هل كانت هناك اليوم محاولات لضرب دور "الاتحاد" وبالتالي إزاحته عن المشهد؟

مهما كانت نوعية الحكومات القائمة، خاصة في منطقتنا العربية، وحتى في أوروبا بدأ يظهر هذا المنحى، دائماً الحكومات تسعى إلى إضعاف النقابات ودائماً تسعى إلى تدجين النقابات

■ "نداء تونس" (الحاكم) يسعى إلى تدجين النقابات؟

لا، إلى الآن لم ألمس هذا في الحقيقة، ولكن كل الحكومات تفكّر هكذا، أكانت غربية أم عربية أم غير ذلك. وبالتالي كل الحكومات تبحث عن نقابات مهادنة ومسالمة، عن نقابات تأتمر في عملها بما تقدمه لها السلطة. نحن في "الاتحاد" لسنا من هذه الطينة من النقابات. نحن نقدر الظروف الصعبة، (نضع) حساباً لكل كبيرة وصغيرة، ولكن لا أحد قادر على أن يحدد لنا المربع الذي ننشط ونعمل فيه. وبالتالي كما قلت لك في البداية، نحن ليست لدينا عداوة قائمة ولا صداقة ثابتة. المهم بيننا هو الملفات التي ستطرح ونتناولها بالدرس بعضنا مع بعض لإيجاد الحلول لها. دائماً شعارنا الحوار وليس شعارنا تعطيل العمل ولا كثرة الإضرابات، ولكن الكل متأكد أنّ هذه الإضرابات تقع لأن هناك أسباباً وجيهة للقيام بها، بالرغم من أنها قلّت كثيراً عن فترات سابقة.
وعلى فكرة، لمن لا يعرف، عندما مرت بلادنا بفترة صعبة، وخاصة في 2013، لم نتمكن من زيادة أجور العمال في تلك الفترة لأنه كان المطلوب منا هو الانكباب على إيجاد حل ومخرج لبلادنا لأن المخاطر كانت كبيرة...
نحن نقدّر الظروف الصعبة، لكن لا أحد قادر على أن يحدد لنا المربع الذي نعمل فيه

الآن نريد من هذه الحكومة إنهاء هذه الاستحقاقات الاجتماعية لأننا ضحينا في 2013... لأن همنا كان إنقاذ بلادنا، ولكن الآن والوضع قد استقر، وأمام الارتفاع الجنوني للأسعار، أصبحنا كمنظمة وكعمال لا نتحدث عن تحسين القدرة الشرائية بقدر ما نتحدث عن ترميم أقصى ما يمكن ترميمه من تدهور. على الناس أيضاً أن تعي وأننا ضحينا بسنة 2013 ولا يمكننا الاستمرار في التضحية. ومع ذلك كنا بعد أن ننهي المفاوضات الاجتماعية نتعرف على الامكانيات الحقيقية ونتفاوض، وإن كانت هناك تضحية مطلوبة فالتضحية يجب أن تكون من طرف الجميع وليس من طرف العمال فقط، ونحن مستعدون للتضحية وللقيام بدورنا من أجل مصلحة بلادنا.

■ ربطاً بهذا الحديث، معروف أن أعضاء المكتب التنفيذي لـ"الاتحاد"، أو الأعضاء المنتسبين، لديهم توجهات سياسية والبعض ينتمي إلى أحزاب... سؤال شخصي ربما: أيهما أصعب، إدارة القرار ضمن "الاتحاد"، أم إدارة العلاقة مع الحكومات؟

هذا السؤال يعنيني مباشرة... لمن لا يعرف الحركة النقابية التونسية وأنه منذ تأسيس "الاتحاد" ــ السنة المقبلة سنحتفل بالذكرى السبعين ــ كانت كل الأحزاب، على أقليتها في تلك الفترة، العاملة في السر وغير المعلنة، كلها منخرطة في "الاتحاد"... وهذا الأمر لم يعد يقلقنا ولا يزعجنا. عند السؤال عن إمكانية التوفيق بين هذه الأطراف المتناقضة، أقول فقط إنه مثلما توصلنا إلى النجاح في الحوار الوطني بإدارة صراع الأحزاب، على أهميته، تعودنا إدارة هذا الشأن في المسألة الداخلية.
شعارنا هو: نرحب بكل الأحزاب في أن تنخرط في الاتحاد، قواعدها طبعاً ــ العمالية منها، ولكن لنا خطوط حمر لا سبيل إلى أن يقع تجاوزها، وهذه الخطوط يضبطها وينظمها القانون الأساسي (للاتحاد)... لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن أي حزب، كان قوياً، متوسطاً أو ضعيفاً، حاكماً أو معارضاً، أن يوظف "الاتحاد" للمصالح الفئوية الحزبية الضيقة. هذا شأن متفق عليه، والقرار النقابي هو قرار مستقل، لا يتأثر بهذا الخليط الموجود داخل الاتحاد، بل استطعنا وما زلنا قادرين على إدارة هذا الشأن الداخلي، ولا نعتبره نقطة ضعف بل قوة... ولذا عندنا من النضج ما يكفينا لإدارة هذا الخليط، هذه الفسيفساء التي يتركب منها "الاتحاد"... في المحصلة، لا نعتقد أنها نقطة ضعف ولا أيضاً هي "مقلقتنا" في إدارة الشأن الداخلي... تعودنا هذا...

■منذ تبوّئك الأمانة العامة لـ"الاتحاد" (2012)، عرفت تونس تغيّرات لم تشهد لها مثيلاً خلال خمسين أو حتى ستين عاماً. اليوم كيف تقيّمون هذه المرحلة لناحية دور "الاتحاد" وأيضاً دورك خلال هذه المرحلة؟

...منذ اندلاع الثورة حتى الآن هي فترة صعبة مرت فيها البلاد. أثرت في الاقتصاد... وما كان لذلك من انعكاسات على المستوى الاجتماعي. على كل، نحن على الأقل نقول إن هذا التقييم يترك للآخرين، لا نقيّم أنفسنا... "التقييم"، أنا لا أحب أن أقيّم المنظمة التي أنتمي إليها، أترك ذلك للآخرين، ولكن أعتقد أنّ "الاتحاد" كان حاضراً في أهم المحطات، وكان يلعب الدور المطلوب ولم يتخلّ عن هذا الدور. حتى بالنسبة إلى السنوات المقبلة خاصة إذا ما اختلّ التوازن داخل البلاد وإذا ما كانت هناك مخاطر محدقة، سوف لن نتردد لحظة في الأخذ بزمام الأمور... لكن أتمنى على الحكومة الحالية أن تنجح في أعمالها وألا تشهد بلادنا مشاكل ولا مخاطر

■ يبقى سؤال أخير عن مؤتمر "الاتحاد" المقبل (2016) الذي سيشهد انتخاب أمين عام جديد. هل ستغادر "الاتحاد" أم ستبقى؟

أين أبقى؟

■ في الأمانة العامة

لا، أنا قررت أن أضع حداً لنشاطي النقابي خلال المؤتمر المقبل. وبالتالي أرهقت وتعبت وسوف نترك (المجال) للشباب حتى يتحمّل المسؤولية، وسأتمنى لهم التوفيق والنجاح (وانشالله ربي يعاونهم) على قيادة البلاد، لأنه حتى السنوات المقبلة هي سنوات صعبة تتطلب الكثير من الحنكة، وتتطلب شيئاً من التجربة وشيئاً من الصبر وشيئاً من الصمود أيضاً. والاتحاد العام التونسي للشغل مدرسة فيها كفاءات كثيرة، والأمر ليس موكلاً بشخص بعينه، وإنما تذهب الرجال وتبقى المنظمة، وتونس ولّادة والاتحاد ولّاد، له من النساء والرجال ما يجعله يشق طريقه دائماً نحو الأفضل. لكن أنا سأنهي في نهاية سنة 2016، سأغادر المسؤولية في الاتحاد العام التونسي للشغل.




حسين العباسي من مواليد عام 1947، مدينة السبيخة في ولاية القيروان. انتخب عام 2011 و12 شخصاً آخرين بصفة أعضاء في "المكتب التنفيذي الوطني"، لينتخب لاحقاً أميناً عاماً للمنظمة. لا يعتبر الدور السياسي الذي لعبه استثناءاً في تاريخ المركزية النقابية التونسية، لكن الظروف وحجم الدور فرضا طرح أسئلة حول موقع "الاتحاد" ضمن الحياة السياسية التونسية.