الناصرة ــ فراس خطيب
غالباً ما تكون التصفيات الإسرائيلية للمقاومين الفلسطينيين مجرد خبر، التي تتناقل التنديدات، وتتجاهل ما خلّفته عملية الاغتيال من أسى يمكن أن يكون أصعب من الموت. الطفلة ماريا آمن تمثل واحدة من القصص المأسوية لخبر ما بعد الاغتيال

يوم السبت، في العشرين من شهر أيار الماضي 2006، أعلن المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي أنّ إسرائيل «نجحت» في تصفية «القائد في الجهاد الإسلامي محمد دحدوح». محللو الشؤون العربية في القنوات الإسرائيلية قاطبة أشاروا إلى «أهميّة» هذا الإنجاز، مبيّنين أنه «سيخفف من إطلاق صواريخ القسام». لكنّ الناطق العسكري في حينه لم يذكر أنّ عملية «التصفية الناجحة»، خلّفت أربعة شهداء من عائلة واحدة وجرحت ثلاثة آخرين، بينهم طفلة في وضع «ميؤوس» منه، اسمها ماريا آمن نقلت إلى العلاج في إسرائيل.
اليوم، وبعد نحو سبعة أشهر، يجلس حمدي آمن على باب روضة الأطفال في مستشفى «ألين» الإسرائيلي في القدس المحتلة، منتظراً خروج ماريا، التي غادرت على كرسي نقال كهربائي، أشبه بمستشفى متنقل. لا تحرك سوى رأسها. تعاني من شلل في كل أنحاء جسدها. تتنفس عن طريق الأجهزة، وتحرك الكرسي عن طريق جهاز وضع إلى جانب ذقنها.
كانت ماريا مبتسمة ومتفائلة بالحياة. قالت لوالدها «بابا تعلّمنا اليوم حرفاً جديداً، اسمه الباء». ابتسم حمدي وقبّلها كعادته، وسار الإثنان في أروقة المبنى الصامت.
منذ سبعة أشهر، تحوّل حمدي ليكون عالم ماريا، بعدما فقدت والدتها وجدتها وخالها وأخاها الأكبر، وهي أيضاً أصبحت عالمه. سبعة أشهر، لم يخرج خلالها الإثنان من هذا المبنى الصامت الذي تحوّل إلى عالمهما.
تنهي ماريا علاجها في إسرائيل خلال شهر، لكن لا مستشفى يستطيع استقبالها في غزة نظراً لحالتها المعقّدة. تتنصل تل أبيب من جريمتها بحق ماريا وستعيدها ثانيةً إلى غزة. تقول إحدى المعالجات إن «عودة ماريا إلى غزة تعني موتها»، موضحة أنّه «لا يمكن استيعابها هناك».
لا يفكر حمدي بالمصاب الذي ألم به قبل أشهر بقدر ما يفكر بالبرنامج اليومي لماريا. لا أحد سواه يقترب من ماريا وباختياره. يستفيق باكراً، يطعمها وينظفها، يربطها بالأجهزة ثانية، يلبسها ويسرح لها شعرها، تسريحة كما تختارها هي. حين يأتي الزائرون، تصمّم ماريا على تسريحة «ليست اعتيادية»، وتصمم أيضاً على ارتداء أجمل ما عندها من الملابس والعقود.
في أوقات الفراغ، إن وجدت، يجلس حمدي إلى جانبها حاملاً علبة طلاء الأظافر الأحمر أو الزهري. يرسم لها أشكالاً على أظافرها.
تسير ماريا في أروقة المستشفى، مرتبة دائماً. الجميع يعرفها. لا تزال تتمتع بسحر خاص، تعلمت العبرية المحكية أثناء فترة علاجها. يقول حمدي إنّ «ماريا كانت أكبر من جيلها بكثير عندما كانت في غزة أيضاً... ماريا ذكية جداً ومن أفضل بنات جيلها».
كان حمدي واقفاً عند مدخل المستشفى، حاملاً سيجارته وناظراً إليها من خلف الزجاج. فهو دائماً يحاول ألا يتحدث عن الصاروخ الذي أصاب العائلة أمامها، ويحاول أن يقنعها بأنَّ ما حصل كان «حادثاً عادياً». لكنَّ ماريا أقوى من أن تصدق. عندما تقترب وتسألها عن والدتها وشقيقها، ترفع رأسها إلى الأعلى: «ماما ومحمد في الجنة». تصمت لبرهة، وتكمل «اجا عليهم صاروخ من اليهود». حمدي يبكي، وهي تبتسم.
يقول حمدي «فقدت أعز ما أملك، لكن إيماني بالله كبير. الله أخد والله أعطى»؛ ولكن في قلبه خوف «ماذا سأقول لماريا عندما ستكبر وتكتشف أنّ حالتها مزمنة وأنّها ستظل هكذا إلى الأبد... أخاف من ذلك اليوم عندما ستتزوج كل بنات جيلها وستظل هي مقعدة...أخاف من ذلك اليوم. أريد العودة إلى غزة».
«حمدي وماريا»، قصة فلسطينية مألوفة. في هذا المكان المسمى «ألين»، قبع فيه الكثيرون من الأطفال الفلسطينيين الذين أصيبوا أثناء عمليات الاحتلال. الحديث عن صراع ما بعد الموت. الدخول إلى المكان ممنوع من قبل الصحافيين إلا بتصريح خاص يستغرق وقتاً لاستصداره. التفتيش دقيق وممنوع إدخال الكاميرات ولا بأي حالة تذكر، عليك أن تكون زائراً معروفاً للأهل. الدخول إلى هذا المكان لا يترك للزائر حيّزاً من التفاؤل. جدران بيضاء ومشاهد مؤلمة. قد يكون العالم أكثر وردياً من دونها. كان لا بدَّ من الخروج ولو قليلاً لاستنشاق الهواء، حيث من الممكن استعمال الكاميرا خلسة.
ماريا تخرج أيضاً، من باب المستشفى باتجاه حمدي. تقول لوالدها إنَّها «ملّت وتريد العودة إلى غزة». وعندما تسأل ماريا عما تشتاق اليه هناك، لا تذكر من غزة الكبيرة سوى شقيقها مؤمن: «اشتقت له كثيراً كثيراً كثيراً». وتضيف «عندما سأنهي العلاج هنا، سأضعه في حضني وسأغني له وسألعب معه».
وبعد عناء طويل، سمحت السلطات لعائلة ماريا مع شقيقها الصغير بأن تزورها في المستشفى. كان اللقاء الأول مع من بقي من الأقارب مؤلماً. يقول حمدي «اللقاء أعاد العائلة إلى يوم الحادث، لكن ماريا كانت مبسوطة بلقاء مؤمن الذي لم يفارقها».
تريد ماريا العودة إلى غرفتها. قبل أن تذهب، شاهدت الكاميرا وأرادت أن تتصور. صمّمت على أن نلتقط الصورة وهي تسير بالكرسي الكهربائي. وصممّت أيضاً على أن يظهر عقدها الذهبي الجديد، الذي وصلها هدية من العائلة.
الخروج من مستشفى «ألين» يحمل بين طياته حملاً ثقيلاً فيه الكثير عن «الموت ما بعد الموت». هناك، بين هذه الجدران الصامتة، يمحو الصراع الخطابات والمؤتمرات ليأتي على شاكلة أمنية طفل صغير يأمل في أن يقف على قدميه أو أن يرى بعينيه. بين هذه الجدران، تأخذ جرائم الاحتلال حجمها الطبيعي، مأساة كبيرة لا نهائية، وعلى ما يبدو لن تنتهي، وخصوصاً أنَّ المحكمة العليا الإسرائيلية أقرّت قبل أسابيع أنَّ «التصفيات» الإسرائيلية، التي أودت بحياة عائلات بأكملها عن طريق «الخطأ»، مشروعة للجيش الإسرائيلي الذي لم يتوقف عنها ليوم واحد.
الخروج من المستشفى يعني الخروج إلى واقع القدس المحتلة الغربية. الشمس مشرقة، لكنَّ النسمات الباردة أقوى منها بكثير. أزمة سير غير اعتيادية وعلى غير موعدها تحتل الشوارع المؤدية إلى مركز المدينة، والانتظار طويل. بعد لحظات، ستمر وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس من هنا في طريقها للقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت. قافلة رايس تسير محصّنة في الشارع الخالي إلى أحد فنادق القدس المحتلة. هناك في الغرف المغلقة سيبحث الإثنان كل شيء في الشرق الأوسط. لا موضوع مؤكداً، لكن من المؤكد أن ماريا ومن مثلها من الأطفال الفلسطينيين يدفعون ثمن هذه «الجلسات المغلقة».