معاريف» ـــ جاكي خوغي
السجال في إسرائيل في شأن مسألة نجاح حزب الله في ترميم قدراته العسكرية يغفل نقطة أكثر أهمية: المنظمة، التي نُُظر إليها من جانب اللبنانيين على أنها جلبت الخراب على البلد، نجحت في ترميم مكانتها وفي جرف الكثير من المؤيدين من الوسط المسيحي. فهل كان الأمر خلافاً في التحليل أم زلة لسان محرجة؟

التصريحات التي تسربت عن لجنة الخارجية والأمن الأسبوع الماضي (في ما يتعلّق باستعادة حزب الله لقدراته العسكرية بعد الحرب) تثير الشبهة بأن قيادة المؤسسة الأمنية مربكة مرة أخرى.
والتسريبات، التي هدفت إلى تصحيح الانطباع والقول إن حزب الله ما زال يلعق جراحه، تواصلت في الأيام التالية. إلا أن شخصاً لم يقف ليصرخ قائلاً إن الاهتمام بوتيرة تسلح حزب الله هو انهماك بتفاصيل صغيرة. فإن لم يكن قد حصل اليوم على صواريخ «زلزال» الإيرانية، فإنه سيحصل عليها بعد شهرين. في صراع لا تبدو نهايته في الأفق، تعد فترة نصف عام أو عام أمراً لا يغير كثيراً في المعادلة. بل إن الإفادات من لبنان تؤشر إلى أن التاريخ يعيد نفسه. فحزب الله خرج من المواجهة الأخيرة أقوى مما كان، تماماً كما حصل في أعقاب المواجهتين العنيفتين معه عامي 1993 و 1996.
مع شن إسرائيل الحرب على لبنان، أمِلَت قيادة الجيش أن تستخدم الضربات ضد الجمهور اللبناني من أجل دفعه إلى «قلب الطاولة» على حزب الله. قال ضباط كبار في الجيش، في اجتماعات مغلقة إن أحد أهداف الحرب الاستراتيجية هو إحداث تغيير سياسي في لبنان من خلال الاحتجاج في الشارع، عبر تظاهرات صاخبة، أو من خلال إنشاء ائتلاف حكومي جديد يقول لحزب الله «كفى».
وبالفعل، فبرغم أن الحديث الرسمي الإسرائيلي غير منهمك بهذا الأمر، إلا أن حزب الله تلقى سلسلة ضربات في الحرب. إن استهداف ترسانته التسليحية كان أصغر مشاكله. رد فعل الجيش على عملية الاختطاف في 12 تموز 2006 أدى إلى كارثة على الاقتصاد اللبناني غير المستقر أساساً. عملية الاختطاف الخرقاء نُفذت في أوج موسم السياحة اللبناني، الذي كان واعداً.
كما أن الحرب جلبت آلاف الجنود الأجانب الذين يزعجون حزب الله في ممارسة سيطرته على جنوب لبنان. وإن لم يكن ذلك كافياً، فإن الحرب محت أيضاً «توازن الرعب» الذي أوجده الحزب مع إسرائيل.
من الدفاع إلى الهجوم
إلا أن السياسة اللبنانية تملك ديناميكية خاصة. فرغم سقطات حزب الله، أخذ الأمل الإسرائيلي بأن تدفع المنظمة ثمناً داخلياً باهظاً على مغامرتها بالتلاشي. المشهد في بيروت يدلّل على وجه التحديد على أن نصر الله ورجاله لم يحشروا في الزاوية. بل على العكس، لقد حوّلوا الدفاع إلى هجوم ولم يفقدوا دعم الجماهير. وبدل أن تخرج الحشود للتظاهر ضد نصر الله وعصابته، كان الحزب هو من أشعل بيروت أخيراً بأمواج من الحماسة لم يعرف لبنان مثلها من قبل.
أحد المواطنين اللبنانيين في أوروبا الذين زاروا وطنهم أخيراً وشارك في تظاهرات احتجاجية لحزب الله، قال لـ«معاريف» «إنهم (حزب الله) أخرجوا الحشود إلى الشوارع وكان في الأجواء شعور بالقوة والنجاح». وأضاف «حتى المسيحيون شاركوهم. لقد قال لي أحد المسيحيين إن نصر الله بطل».
المواطن اللبناني نفسه قال إن حزب الله ما زال يحرص، بعد نصف عام على اندلاع الحرب، على إرسال وجبات الغذاء اليومية إلى السكان في المناطق التي قصفت، «إنهم يغرقون السكان بالطعام، حتى الأغنياء الذين لا يحتاجون إلى ذلك، يحصلون على الوجبات في بيوتهم».
عندما رفض (الرئيس فؤاد) السنيورة إعطاء نصر الله ثلث أعضاء الحكومة، أعلن الأخير وحليفه الجنرال المسيحي ميشال عون حملة جماهيرية لإسقاط الحكومة وإجراء انتخابات جديدة. وقد وعدا بالعمل سلمياً، وأخرجا مئات الآلاف إلى الشوارع. الشهادات من التظاهرات في الأيام الأولى تدلل على أن مستوى الدعم لموقف حزب الله كان خارجاً عن المألوف، لم يشهده الشارع اللبناني منذ أعوام. الصحافية كريس فيان بالمر، التي غطت الحدث، وصفته بالقول «إنه كان الحدث الأكثر حيوية وتنوعاً وحشداً وحماسة الذي رأيته في حياتي».
المسيحيون معه
إن نجاح حزب الله باستقطاب شرائح كثيرة من الطائفة المسيحية، يُعدّ أحد الإنجازات المثيرة للانطباع في هذه الحملة. الأمر يتعلق بحلف بدأ يُنسج قبل الحرب مع الجنرال عون، لكنه توثق جداً بعدها. في عيد الميلاد، رُصدت في شوارع لبنان مشاهد جديدة: مؤيدو حزب الله، من الشيعة، يساعدون جيرانهم المسيحيين على تزيين شوارعهم وبيوتهم بشجر الميلاد. أحد المحللين السياسيين اللبنانيين المقيمين في بيروت قال لـ«معاريف» «لقد كانت هذه لحظة نادرة من التقارب بين الجانبين». وأضاف، طالباً عدم الكشف عن اسمه، «المسيحيون دُهشوا بمستوى الثقافة عند الشيعة، الذين كانوا يُعدّون عامة الشعب. الشيعة، من ناحيتهم، تولّد لديهم الانطباع بأن العداء وسط المسيحيين تجاههم ليس كبيراً إلى هذا الحد».وبحسب المحلل نفسه، فإن الكثير من الجمهور المسيحي يرى في حسن نصر الله زعيماً مستقيماً ومتواضعاً يعمل لرفاهية الشعب، قبل أن يعمل لبيته. ويضيف «إن الاحتجاج الذي يقوده حزب الله قرّب منه جهات غير دينية، كالحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي. في الواقع، كل هذه الحملة أبرزت الصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء، وهذا لمصلحة حزب الله».
الصراع الطبقي
حملة إطاحة الحكومة اللبنانية عالقة في الوقت الراهن. السنيورة غير مستعد للتزحزح. وهو يقول، محقّاً، إنه انتُخب من الشعب في عملية ديموقراطية. سلسلة من الوساطات، العربية والسعودية والإيرانية، تعمل منذ أسابيع على إيجاد مخرج مشرّف للجميع.
الانطلاقة لم تتحقق. حزب الله أدرك أنه من الصعب إنجاز أهداف قصيرة المدى من خلال الانصياع لقواعد الديموقراطية، لكن، من جهة أخرى، من كان يصدق أنه بعد أشهر معدودة من نهاية الحرب التي انجرّ إليها الجميع، ستجرؤ هذه المنظمة، من دون أي شعور بالدونية أو بالخجل، على الظهور بمظهر المخلص للبنان وتطالب بحقوق الطائفة الشيعية وإلى جانبها تقف الجماهير. الخصوم، سواء كانوا إسرائيل، أو الأميركيين، أو الائتلاف الحاكم، كان لديهم سيناريوهات مختلفة كلياً.
لماذا يواصل الكثير من الشعب اللبناني احترام حزب الله حتى بعد أن أحلّ كارثة على بلدهم؟ يجب البحث هنا عن الأسباب في الجيب وفي صحن الطعام. شرائح واسعة من الجمهور الشيعي تعادي نصر الله ولا تتعاطف مع البعد الديني الذي يمثله، إلا أنهم برغم حقدهم على الزعيم الذي دمر بيوتهم وعالمهم، يعلمون أن نصر الله هو الكابح الوحيد أمام دفعهم إلى هامش المجتمع، إلى المكان الذي كانوا فيه قبل ثلاثة عقود. في الواقع، المواجهة اليوم بين حكومة ذات أكثرية سنية وبين حزب الله هي صراع على توزيع القوة بين طائفتين. هذا هو الهدف الأهم بالنسبة إلى نصر الله، أكثر من الصراع مع إسرائيل.