أرنست خوري
في 17 شباط 2001، نقل الصحافي التركي في «ميليات»، حسن كمال، عن مسؤول إسرائيلي وصفه للعلاقات التركية ـ الإسرائيلية بأنها تنال درجة أعلى من عشرة على عشرة. قد يكون هذا الوصف، الأخير من نوعه بعدما تعثرت العلاقات عام 2002، قبل أن تعود الحرارة إليها، هذه الأيام، مصحوبة بدفء في العلاقات مع دمشق أملاً بتأدية دور كبير عشيّة مؤتمر أنابوليس

منذ وصول إسلاميّي «العدالة والتنمية» إلى الحكم في تركيا عام 2002، أشياء كثيرة تغيّرت في السياسات الإقليمية والدولية لأنقرة، التي بات يشوبها تناقض لافت بين العلاقة العميقة تاريخياً مع إسرائيل، وتلك التي تُعتَبَر اليوم ممتازة مع الجار السوري، عدو الأمس. وإذا كانت القاعدة التي لطالما حكمت دبلوماسية تركيا تتلخّص بايديولوجية المؤسّسة العسكريّة التي تنظر إلى محيطها الإسلامي والعربي بعين الريبة والغربة، وتصنّف نفسها في خانة الثقافة الغربية الأوروبيّة، فإنّ تلك القاعدة أخذت بالانحراف عن سكّتها لتحاكي رأي عام تركي يجنح إلى الإسلام أكثر فأكثر، ويكنّ المزيد من الحقد للسياسات الأميركية والإسرائيلية.
ومع حزب العدالة والتنمية، عرفت علاقات أنقرة مع تل أبيب برودة عكّرت مشهد الغرام الذي جمع بين الدولتين غير العربيّتين في هذا الشرق. مشهد عبّرت عنه الطبقة السياسية الحاكمة ممثّلة بالرئيس، عصمت إينونو، وريث أتاتورك، من خلال الاعتراف بدولة إسرائيل عام 1948، بعد أسبوع واحد من خطوة مماثلة اتخذتها الولايات المتّحدة، لتكون أوّل دولة إسلامية تعترف بالدولة العبريّة.
ولا يمكن الإشارة إلى العلاقات التركية ـــــ الإسرائيلية، وخصوصاً في المجال العسكري ـــــ الأمني، قبل التأكيد على أنّ هذه العلاقات كانت تستظلّ دوماً بالسقف الأميركي الواقي. لذلك، شكّل التعكّر في العلاقات التركية ـــــ الأميركية، الذي نتج من موقف البرلمان التركي من الغزو الأميركي للعراق عام 2003، «صدمة» لتل أبيب، أكّدت محدوديّة الاتكال على وضعيّة تركيا كـ«دبّابة إسرائيلية» في المنطقة. وكان قرار النوّاب الأتراك منع القوّات الجوية الأميركية من استعمال قاعدة «أنجرليك» لضرب العراق، مناقضاً تماماً لسماحهم لزملائها في آب 1990، باستخدام قاعدتي «إنجرليك» و«باقهان»، في عمليات «عاصفة الصحراء».
وقد لا تكون صدفة إطلاق القيادة العسكرية الإسرائيلية على العلاقة مع تركيا شيفرة «ميركافا»، حسبما كشفه كتاب صدر عام 2000 تحت عنوان «العلاقات التركية الإسرائيلية». لكن هذا كان في عهود حكم العلمانيين لتركيا، حين كان العسكر يفرضون أجندتهم القائمة على اعتبار إسرائيل حليفاً استراتيجياً. و«الحليف الاستراتيجي»، بالتعريف، لا يمكن أن يقوم إلا ليواجه أعداء محتملين أو موجودين بالفعل. و«العدو» هذا بقي، حتّى عام 2002، العمق العربي المتمثّل خصوصاً بالعراق وسوريا، الدولتين العربيّتين الكبيرتين اللتين تتشاركان الحدود البريّة مع تركيا، الدولة الشرق أوسطية الوحيدة العضو في حلف شمال الأطلسي، وصاحبة ثاني أكبر جيش برّي في العالم.
وتطوّرت علاقات أنقرة مع تل أبيب في المجال الأمني بموجب «اتفاقية الرمح الثلاثي» (Trident)، التي أُبرمت عام 1958 مع إيران الشاه. وبموجبها، أنشأ «الموساد» الإسرائيلي «مركزاً استخبارياً» في تركيا، ازدهر نشاطه بوجه خاص. وفي عام 1980، عقدت الدولتان اتفاقية التعاون الاقتصادي والدفاع (DECA).
لكنّ التاريخ العسكري الأهم في علاقات بين الجانبين يبقى عام 1996، حين زار الرئيس سليمان ديميريل إسرائيل في آذار ووقّع اتفاقات للتعاون العسكري، حضّرت لها رئيسة الوزراء تانسو تشيلر منذ عام 1994.
في شهر حزيران 2001، انتهت في تركيا مناورات عسكرية ضخمة شاركت فيها أسلحة الجو الأميركية والتركية والإسرائيلية على مدى أسبوعين تزامناً مع ذروة الاعتداءات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، والتي لم تجد حكومة أنقرة فيها سبباً لتأجيل المناورة أو إلغائها.
وتُوِّج التعاون بين الدولتين في إشراك إسرائيل في مشروع إقليمي ضخم، هو «مشروع مياه السلام» لنقل نحو 180 مليون متر مكعب، سنويّاً، من مياه أنهار جنوب تركيا إلى إسرائيل التي كانت وستظلّ تعاني عقدة الحاجة المزمنة إلى هذه المادة الحيوية.
في المقابل، بقيت علاقة تركيا بالوطن العربي عدائية، على خلفية أسباب عديدة: موقفها من عدوان 1956 على مصر، وتصويتها ضدّ استقلال الجزائر في الأمم المتحدة، ودورها في «حلف بغداد»، وأزمة المياه الدائمة مع العراق وسوريا...
أمّا اليوم، فمع احتكار الطاقم الإسلامي لمؤسّسات الدولة التركية (الرئاسة والحكومة والبرلمان)، تُطرَح تساؤلات كثيرة عن طبيعة العلاقة التي تربط أنقرة بتل أبيب. فمن جهة، تجهد تركيا لتصوير نفسها على أنها الدولة الوحيدة القادرة على نسج علاقات بين الإسرائيليّين والعرب «المعتدلين» و«المتطرّفين» (حسب التصنيف الأميركي). وهي تسعى بقوّة إلى اقتناص فرصة التحضيرات الجارية لعقد مؤتمر «أنابوليس» لتؤدي دور الوكيل الحصري في التقريب بين كلّ من الإسرائيليين والفلسطينيّين والسوريّين.
من هنا، تحاول تركيا أن تطوي صفحة الأزمة الكبيرة التي فجّرتها تصريحات رجب طيب أردوغان عام 2005 لتحافظ في الوقت نفسه على خيط متين مع أطراف الصراع العربي الإسرائيلي. وما إعلان الرئيس عبد الله غول يوم الثلاثاء الماضي أنّ بلاده قد تؤدّي دوراً في التوسّط للإفراج عن الجنديَّين الإسرائيليَّين اللذين أسرهما حزب الله خلال عدوان تموز 2006 (إيهود غولدفاسر وإلداد رغيف)، سوى إشارة الى مدى رغبة تركيا في تنصيب نفسها عرّاباً لحلّ صراع المنطقة.
وكان أردوغان قد رفض عام 2005 استقبال نائب رئيس الوزراء آنذاك إيهود أولمرت في أنقرة، كترجمة عملية لوصفه الدولة الإسرائيلية بـ«الدولة الإرهابية» إثر اغتيال القياديين في حركة «حماس» الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي. كما وصف الاجتياح الإسرائيلي لمخيم رفح بـ«إرهاب الدولة» ثمّ سحب السفير التركي لدى تل أبيب احتجاجاً. وفضّل أردوغان حينها أن يبعث برسالة إلى إسرائيل من خلال استقباله لرئيس الوزراء السوري ناجي عطري، الذي كان قد وصل إلى أنقرة قبل ساعات قليلة من وصول أولمرت.
اليوم انتهت القطيعة التركية ـــــ السورية التي كادت تصل إلى حرب بين البلدين في نهاية التسعينيات، وباتت الأبواب مشرّعة لحكّام تركيا ليحوّلوا «الميركافا التركيّة» إلى قاطرة سلام. لكنّ هذه القاطرة لا تزال حتّى اللحظة في الإطار النظري، وفاعليتها غير مختَبرة بعد.