على عجل، وبناء على ما توفّر لدى المؤسستين العسكرية والاستخبارية وما «تيسّر» في الأيام الأخيرة قبل العدوان من معطيات حول مراكز حيوية للجيش اليمني وحركة «أنصار الله» قدّمها اللواء الفار علي محسن الأحمر الذي يقود غرفة عمليات مشتركة تحت القيادة العسكرية السعودية على الحدود المقابلة لليمن، معطيان رئيسيان دفعا القيادة السياسية السعودية إلى تعجيل قرار الحرب:
ــ وصول المفاوضات النووية بين إيران و»5+1» الى نتيجة شبه محسومة تمهيداً لتوقيع اتفاق مبادئ، وما سوف ينعكس في هيئة تفاهمات سياسية شاملة على ملفات المنطقة في مرحلة لاحقة. ــ استكمال الثورة التصحيحية التي انطلقت في 21 أيلول 2014 لمراحل بسط السيطرة على كامل التراب اليمني، الأمر الذي يعني تقويضاً تاماً وشاملاً للنفوذ السعودي. بكلمات أخرى، خروج اليمن من مجال الهيمنة السعودية التي دامت أكثر من ثمانية عقود من الزمن.
«أنصار الله» تتهم السعودية بضلوعها في تفجيرات صنعاء الأسبوع الماضي

سعودياً، تبدو الحسابات العسكرية أو بالأحرى الاستراتيجية غير متطابقة مع السياسية. والأكثر أهمية في الأمر، لا المبررات القانونية ولا الشرعية الدولية الفرعية والكلية، أي الجامعة العربية ومجلس الأمن الدولي قد منحا السعودية وتحالفها العشري تفويضاً بإعلان الحرب على اليمن. وما حصل في حقيقة الأمر هو «تهريبة»، فالعدوان السعودي جرى قبل أيام من انعقاد القمة العربية، وعليه فإن الإجماع العربي غير متحقّق في هذا الأمر. مشهد مناقشة تفويض دولة عربية بالعدوان على دولة عربية أخرى سوف يبدو مستهجناً، ومن الأفضل أن يتمّ في الظلام. أما الشرعية الدولية للعدوان فمعدومة ابتداءً لأن الفيتو الروسي والصيني له بالمرصاد.
استعادة الشرعية، وقف النفوذ الإيراني، القضاء على جماعة الحوثي، درء خطر الحرب الأهلية... مبررات تقافزت تباعاً على المسرح، ليس من بينها ما هو مقنع إلا لجمهور التحالف العشري الذي لا يحتاج الى مزيد إقناع، فـ«الغرائزية» المذهبية تتكفل بتحويل أشد المبررات سخفاً الى أكثرها رسوخاً في العاطفة الشعبية، فهو عقل قادر على توليد وبسخاء مفرط مبررات مريحة للعدوان. من عمق هذا الجنوح المنفلت، يتم ترتيب «أولويات الأعداء» وتبدو اسرائيل في قائمة الحلفاء بالنسبة لأولئك الذين اختاروا الفصاحة في العلاقة مع قوى الشر. الصحافة الاسرائيلية من جانبها برعت في استدراج تصريحات أولئك الفصحاء، وكتبت صحيفة «يديعوت احرونوت» في 27 آذار أن ثمة «سعوديين عبّروا عن المصير المشترك مع اسرائيل».
حين تجتمع العقيدة المعلولة بأن اليمن امتياز سعودي مع تضخم هاجس النفوذ الإيراني، يصبح العقل المدبّر في المملكة السعودية محثوثاً بهواجسه وهلوساته. وعليه، فإن السعودية ليست بحاجة إلى من يقنعها بجدارة حربها، ولكن التاريخ تكفّل بإيصالها الى اقتناع تام بأن الهزيمة مؤكّدة في حال خوضها هذه الحرب منفردة، فتجربة المواجهات مع حركة «أنصار الله» اليمنية في 2009 ألزمت القيادة العسكرية قبل السياسية على تأجيل مرحلة الحرب البريّة قدر المستطاع؛ فثمة مقاتلون في المقلب الآخر لا يعرفون سوى السير إلى الأمام في الأرض التي يحاربون عليها. تكتيكات الحروب التقليدية لا تعنيهم طالما أن سواعدهم قادرة على حمل السلاح وبعض الزاد الذي يبقيهم على قيد الحياة.
لقد أدبر الزمن الذي تقود فيه السعودية حرباً منفردة، فشحنات السلاح بأشكاله المتنوعة والحديثة لا تصنع بطولة، وكما يقول الزعيم جمال عبد الناصر لا يمكنك أن تقاتل بيد ترتعش، فكيف تصنع بها نصراً. لم يتشرّب الجنود السعوديون عقيدة قتالية جديرة بالتضحية والفداء، وإن حلول الشخص مكان الوطن والأمة يخلق فرصة لصنع صنم، ولكن ليس جيشاً باسلاً.
في الخلفية، ثمة ما يستحق الذكر لفهم دوافع آل سعود إلى العدوان على اليمن. في العشرين من كانون الثاني الماضي، أي قبل ثلاثة أيام من موت الملك عبد الله، زار وفد من حركة «أنصار الله» الحوثية الرياض والتقى مسؤولين في الحكومة السعودية. كانت رسالة الوفد واضحة وتتلخص في طمأنة المملكة السعودية وكل دول الجوار حيال الثورة اليمنية، وأنها تتمسك بمبادئ حسن الجوار والتعاون المشترك من أجل خير الجميع.
كان الجواب السعودي محدّداً وحاسماً:
ـ قطع العلاقة مع إيران
ـ تسليم السلاح للدولة الممثلة برئيسها المستقيل عبد ربه منصور هادي.
نسخة طبق الأصل للمطالب السعودية في لبنان وغزّة كما يعبّر عنها حلفاؤها في 14 آذار أو حكومة رام الله أو إسرائيل أو حتى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي عموماً.على أي حال، عاد وفد أنصار الله الى اليمن بانتظار ترجمة الموقف السعودي على الأرض، وهذا ما حصل. بدأت السعودية بنقل سفارتها من صنعاء الى عدن وتبعتها بقية السفارات الخليجية، بالتزامن مع تحركات دوليّة متوالية، بما في ذلك الدور المنحاز بالمطلق للمبعوث الدولي جمال بن عمر الذي بدت مبادرته ذات طابع بهلواني، وعلى وجه الخصوص إبلاغه مجلس الأمن عن مفاوضات بين الفصائل اليمنية في الدوحة، يعقبها توقيع الاتفاق في الرياض.
كان الجواب السعودي لرفض القوى الثورية اليمنية مقترح بن عمر إجرامياً، فكانت الجمعة الدامية في مسجدي بدر والحشحوش. مصادر «أنصار الله» تتحدث عن أصابع سعودية واضحة في العمليتين الإرهابيتين، ولا سيما بعد نفي «القاعدة» في اليمن صلتها بهما، بل حتى بيان «داعش» الذي وضع على مواقع التواصل الاجتماعي جرى إهماله من قبل الحركة لأن المعطيات المتوافرة لديها تشير الى السعودية حصرياً.
ظهر العقل التسووي كما لو أنه من تركة العهود السابقة، ومنذ بدء الربيع العربي أواخر عام 2010 بدت السعودية محكومة بغرائزية منفلتة، يعبّر عن نفسه في التيه التام في تشخيص المشكلة، وفي تحديد الخيارات بل وتبريرها.
قطعت الرياض الطريق على الحوار بين اليمنيين حين أجبرت بعض القوى بوسائل الإقناع المألوفة سعودياً (دبلوماسية الشنطة)، ووضعت الجميع أمام خيار واحد أن يعود اليمن الى بيت الطاعة السعودي، وإلا فالحرب هي الجواب... وبالفعل كانت.
ولكن الحرب التي يشّنها آل سعود ذات أهداف مجهولة. الإرباك كان لافتاً، فقد تمّ تصوير الحرب على أنها ضد حركة «أنصار الله»، فيما أصبحت كل المراكز الحيوية في اليمن ضمن بنك الأهداف العسكرية السعودية وتحالفها العشري. القواعد العسكرية ومخازن الصواريخ والمجمّعات السكنية التابعة للجيش وحتى بيوت عمّال النظافة بالقرب من مطار صنعاء ليست تابعة للحوثيين. وفي النتائج، حقّق العدوان هدفاً عكسياً، فقد توحّد اليمنيون في الشمال والجنوب في مواجهة آل سعود، وفجّر مخزون الغضب الشعبي في اليمن حيال السياسات السعودية القائمة على امتهان الذات اليمنية والنظرة الاستعلائية حيال الشعب اليمني منذ عقود. في الأثر، حتى أولئك الذين يختلفون مع حركة «أنصار الله» الحوثية يحدوهم الدافع الوطني لمواجهة العدوان السعودي الأميركي. فبعدما كانت الرياض تواجه حركة وجماعة، أصبحت تواجه شعباً بأسره.
ما يجب على الرياض تعلّمه من درس أولي، أن الرد اليمني حتمي، وثمة هبّة شعبية منتظرة بناء على توجيهات زعيم «أنصار الله» في خطابه بعد يومين من بدء العدوان السعودي، وكذلك مواقف القوى الثورية في الشمال والجنوب. فلسفة رد العدوان تقوم على الردع المستقبلي، لأن الصمت وعدم الرد يعنيان انتصاراً استراتيجياً للتحالف العشري وللسعودية على وجه الخصوص. سيكولوجية الشعب اليمني تعدّ عاملاً مضاداً للانكسار العسكري، فالاحتقان الشعبي الطويل والمتوارث ضد الامتهان السعودي للكرامة اليمنية ينزع نحو تحويل العدوان الى منازلة تاريخية أو تصفية حساب. في حقيقة الأمر، لقد منحت السعودية بعدوانها فرصة لشيطنتها أكثر مما مضى. ومع تساقط المزيد من الضحايا، ومن المدنيين على وجه خاص، في هجمات جوية من قبل طيارين حربيين معظمهم من أمراء آل سعود (3 من أصل 5 طيارين حربيين هم من أمراء آل سعود)، سوف يعقّد المهمة العسكرية الآن والسياسية في المستقبل، ولن تخرج السعودية من هذه الحرب بنصر من أي نوع، لأن العدوان لا يقتصر على فئة أو حركة أو منطقة، بل يستهدف اليمن بشعبه وأرضه ومقدراته وثورته.
في الخلاصة، العدوان السعودي على اليمن في جوهره هو الشكل الأقصى للثورة المضادة.