قتلت الصورة نظري، أعمتني. أعترف. كان الأمر أكثر من طاقتي على التحمّل. أعترفُ مرةً أخرى، بدا الوغد بنيامين نتنياهو زائراً لإحدى التجمّعات العربية، لم أعرف من وأين وكيف، لربما لم أحاول حتى استيعاب أي شيءٍ بعد مشهد "الحطات والعقل" التي كانت تزيّن رؤوس أشخاص يحييون ويسلمون، لا بل ويرقصون أمام قاتل الأطفال الشهير.كان القاتل يبدو بابتسامته التي تقطر شماتة وسخرية، متشفياً إلى أبعد حد. كان نتنياهو كعادته يحاول أن يظهر أن القوة هي أصل الأشياء، وبأنَّ الجميع سيرضخون وسيفعلون كما يفعل هؤلاء "المهرجون" في الصورة.

لا شيء يضايق في الصورة أكثر من منظر نتنياهو وهو يأكل "الحلو" العربي الذي أصلاً لم يعد عربياً ولا فلسطينياً، فشركات الحلويات الصهيونية باتت تصنعه وتعلّبه وتصدّره للخارج موشوم عليه –فعلياً- بقلاوة "إسرائيلية" وبشكلٍ عادي، ولا من حسيبٍ أو رقيب. قديماً قال لي أحد رجال المخيّم المسنين يوم حدثته بانزعاجي من قضية "الحلو" تلك: يا بنيي الأرض كلها ظاعت زعلان على شوية حلو؟ فكرت كثيراً بكلام ذلك الكهل وأنا أتطلع في الصورة: هل إن ضاعت الأرض، وضاع الحلو تضيع الكرامة أيضاً؟
في الصورة، كان القاتل ذو الابتسامة المقيتة يوزع ابتسامته، وحراسه ذوي الأسلحة البائنة، والنظارات السوداء (مع أنه لم يكن هناك شمس)، ينظرون حولهم بتحفزٍ بالغ، وأصحاب الدعوة من تجارٍ وكذبة ودجالين وكتبة تقارير، كانوا يجلسون في الصف الأوّل: عماذا كانوا يبحثون؟ كنت أفكّر؟
يعني بلغة أخرى: ماذا كان يريد هؤلاء من "بيبي" وزيارته؟ هل كانوا يعتقدون ولو للحظةٍ واحدة بأن نتنياهو سيعطيهم ولو فتاتاً أكثر مما يعطيهم عادةً؟ هل فعلاً – ومن كل عقلهم- ظنوا بأنَّ الرجل الذي لم يعطهم أكثر من أقل الفتات أثناء ضعفه الشديد سيعطيهم ولو ذرة أكثر وهو في أوج قوته –كما يعتقد- اليوم؟
لقد كان القاتل مقتنعاً بأنه "سيذبح" سياسياً قبل أيام، ومع هذا فإنه لم يتراجع قيد أنملةٍ عن أفكاره ولا عن آرائه، ولا حتى عن التزامه بعدم إعطاء الفلسطينين أي فرصةٍ للحياة. فهل اعتقد أولئك "الأذكياء" بحسهم التجاري وقدراتهم على كتابة التقارير بأنّه هذه المرّة سيكون مستعداً للتنازل عن شيءٍ لمصلحتهم؟ إن الكرامة كالخلايا الجذعية إذا ما فقدت من جسدٍ ما، لا تنبت فيه مرة أخرى.
أجلس في منزلي، وحيداً، ويجلس في الصورة أمامي حشدٌ مختلفٌ من الناس، يبتسمون للصورة وقاتلهم أمامهم. هل كان من جلسوا أمام هولاكو وهو يحتل ويدمّر مدنهم مختلفين عن هؤلاء؟ وتروى الحكاية أن أحد "المهرجين" الحكّام لإحدى المناطق التي احتلها القاتل المغولي أهدى هولاكو خفاً عليه صورة وجهه (أي وجه الحاكم) فنظر المغولي إلى الخف وسأل الحاكم الوضيع: أتراني حافياً أيها ".." (يمكنكم وضع الشتيمة المناسبة في مكان النقطتين). فرد الحاكم بأنه وضع صورته كي تهنأ قدما المحتل المغولي وهما تدوسان على وجهه كل صباح. ضحك هولاكو، وضحك الحاضرون، وضحك المهرج ذاته، أما سكان تلك المنطقة، فقد كانوا يبكون أولادهم وأحبائهم ومن فقدوا. كان استعراض الديوك أمام هولاكو/ نتنياهو محزنةً للغاية.
أكثر من هذا؛ في لحظةٍ ما سألت نفسي، ماذا لو لم يكن هؤلاء المستضيفين أناساً حقيقين. شككت في الأمر أكثر، ماذا لو كانت القضية "فبركة" كما تحدث كثيرٌ من قصص الإعلام وألاعيبه. لكن الخبر المنتشر في كل وسائل الإعلام، فضلاً عن أصدقاءٍ لي في الداخل الفلسطيني، أعادوني إلى حقيقة الأمر: إن لكل شعبٍ خونته الذين سيذوبون مهما فعلوا، وإن كل قاتل وجد يوماً من "يطبل" ويهلل له، ولكنه في نهاية المطاف قتل بذات الطريقة التي قتل بها غيره. أما المطبلين؟ أولئك الذين لا كرامة لهم؟ أولئك الذين لن تشفع كل جمل "المديح" والإطناب والكلام المعسول الذي قالوه لأسيادهم: فهم في النهاية مجرد حذاء يرتديه هولاكو ويرميه: مجرد حذاءٍ لا أكثر ولا أقل.