خرج المتحدّث باسم وزارة الداخلية السعودية، اللواء منصور التركي، ليتلو بياناً دفاعياً عن أحكام الإعدام لـ47 شخصاً بينهم العلامة نمر باقر النمر. لأول مرة، يستعين بممثل عن «وزارة العدل». كان مشهداً يبعث على الاحتقار، حيث يقف رمز القمع إلى جانب رمز الجور. كان ذلك كفيلاً بتصوير نوع العلاقة المشبوهة التي تنشأ بين القضاء والأمن.
تقاسم «الشيخ» والضابط عبء الدفاع، أمام فريقٍ من الصحافيين المنتقين بعناية لحضور المؤتمر الصحافي. لكن ثمّة إجابات ذات طبيعة «تبريرية»، يُراد تقديمها لمن هم خارج الحدود. كل ذلك يشي باستحضار أهل الحكم حراجة موقفهم، في قضية حُبلى بالتناقضات والأسئلة، حول مشروعية الأحكام، بل واستقلالية القضاء.
ثمّة تفاصيل في جلسات محاكمة الشيخ النمر، على مدى السنوات الثلاث، وتستحق التأمل. الشيء نفسه يقال عن محاكمات الرموز الإصلاحية، مثل قادة جمعية «حسم»، عبدالله الحامد ومحمد القحطاني والناشط الحقوقي وليد أبو الخير والمئات غيرهم.
اللافت في تلك المحاكمات هو علاقة القضاة بضباط الأمن. وعلى سبيل المثال، لم تكن المحكمة الخاصة بالنمر ثابتة، إذ كانت تتنقّل بطاقم قضاتها بين الرياض وجدّة، وذلك حسب الأوامر الصادرة من وزارة الداخلية.
الأمر الآخر، فإن المحاكمات كانت تعقد في مبنى تابع للأمن، حيث لا يبتّ القضاة أيّ أمر متعلق بالمحاكمة من دون أن يرجعوا إلى ضابط أمن يمثّل الداخلية، في غرفة مجاورة للمحكمة، وذلك للحصول على إذن، خصوصاً تلك المرتبطة بالدفاع والطعن في الاتهامات، بل وفي أدق تفاصيلها اللوجستية. فالقضاة ليسوا مأذونين بإعطاء أجوبة عن أسئلة الدفاع، خلال جلسات المحكمة، وغالباً ما تقدّم الإجابات في جلسات لاحقة، وهذا كافٍ للكشف عن درجة ارتهان القضاء للجهاز الأمني.
ما قاله التركي، وممثل وزارة العدل، حول الإجراءات القضائية واستقلال القضاء، ومرجعية «الكتاب والسُنّة»، ليس سوى البضاعة الكاسدة التي تعرض في سوق لم يعد قائماً، إلا في جماجم آل سعود ومحازبيهم. فالمرجعية الوحيدة المعمول بها في القضاء السعودي هي وزارة الداخلية. وللإشارة، فحسب، في 9 آب 2003 نشرت الصحف السعودية خبر «عفو ملكي عن ستة بريطانيين وكندي في قضايا تفجيرات الرياض والخبر عام 2000/2001». حينذاك، كان «وليّ الأمر»، فهد بن عبد العزيز، وكانت القضية «أمن وطني»، وكان المتورّطون من غير المواطنين. ومع ذلك أصدر عفواً عنهم. أما قضية النمر، مع عدد من الشباب الذين أعدموا معه، فتقتصر على التعبير عن الرأي السياسي، وهذا حق مكفول في المادة الثانية من «الإعلان العالمي لحقوق الانسان».
أما في الشكل، فهناك أكثر من سؤال عن السر الذي دفع الداخلية للجمع بين أفرادٍ منتمين إلى تنظيم «القاعدة»، ومضى على اعتقال بعضهم أكثر من عشر سنوات، وبين أفراد لم يرتكب أيّ منهم جريمة سوى المشاركة في مسيرات شعبية، وعبّروا، بطرق سلمية، عن مطالب إصلاحية وردت في عرائض التيارات الوطنية، بما فيها عريضة «رؤية لحاضر الوطن ومستقبله»، التي قدّمت لولي العهد حينذاك، الملك عبدالله، في كانون الثاني 2003.
أما المسعى الحقيقي للنظام السعودي من الإعدامات، فهو حاجته إلى تقديم إجابات لجهتين: قاعدته الشعبية في نجد، وحلفائه في الغرب. فخلوّ قائمة الإعدامات من المواطنين الشيعة يثير المكوّن النجدي بكل أطيافه، الديني والليبرالي والعلماني واللاديني، وقد يؤلّب مشايخ الوهابية على النظام. فكانت الترضية بإلحاق مواطنين شيعة بقائمة الإعدامات.
أما الشق الثاني، فخلوّ قائمة الإعدامات من عناصر «القاعدة» من شأنه أن يثير موجة انتقادات واسعة في الغرب، إذ كيف يطال الإعدام مواطنين لم يرتكبوا ما يستحق العقوبة القصوى، فيما يُستثنى حملة السلاح ومن مارسوا فعل القتل ضد مواطنين وأجانب. فكان المخرج بالجمع بين إرهابيين فعليين ينتمون إلى جمهور السلطة وآخرين من الشيعة لإرضاء الطرفين، وبذلك يكون النظام السعودي قد أبقى كذبة «الإرهاب لا دين له» على الطاولة مجدّداً.
وما إن أعلنت الداخلية، في بيانها صباح السبت، إعدام النمر، حتى خرجت تظاهرات عفوية غاضبة من ميدان القلعة وسط مدينة القطيف. وشهد شارع أُحد ــ المتفرع من ميدان القلعة ــ تظاهرة حاشدة، ندّد فيها المتظاهرون بـ«النظام الإجرامي السعودي»، وردّدوا هتافات ضد الملك السعودي سلمان ووليّ عهده محمد بن نايف، الذي اتهموه بشكل مباشر بالوقوف وراء تنفيذ حكم الإعدام.
وحضر شعار «الموت لآل سعود» و«الموت لأمريكا»، بقوّة في التظاهرات طوال فترة بعد الظهر والمساء. كذلك شدّد المتظاهرون، من وسط القطيف، على المطالب المحقة للحراك في المنطقة الشرقية، برفض التمييز الطائفي والقبلي.
من جهتها، أبلغت السلطات السعودية كوادرها العاملين في القطيف، من قضاة وكتّاب عدل ومدرّسين وغيرهم، منحهم إجازات مفتوحة، ونصحتهم بعدم دخول المدينة والمناطق المحيطة حتى إشعار آخر.
أما في مدينة العوامية، مسقط رأس النمر، فشهدت بعض أحيائها تظاهرات فور إعلان إعدام النمر. بدوره، استقدم النظام السعودي تعزيزات أمنية وعسكرية ضخمة، شملت عشرات المدرعات ومئات الجنود، من وزارتي الداخلية والحرس الوطني.
كذلك، خرجت دعوات، بعد ظهر أمس، للقيام بتشييع رمزي للنمر ورفاقه، من أمام «المغتسل»، في العوامية، وصولاً إلى جامع الإمام الحسين، حيث أقيم «مجلس عزاء» للشهداء، وسيستمر حتى منتصف الأسبوع المقبل.
كذلك انتشرت، أيضاً، جداول لمسيرات مقررة في مناطق مختلفة من محافظة القطيف، على مدى أسبوع كامل. وانطلقت أولاها مساء أمس في العوامية، وتوزعت المسيرات الباقية على مناطق عدّة، منها الجارودية والقديح ومدن القطيف وتاروت وصفوى.
وبعد تأكيد شقيق النمر خبر إخفاء سلطات آل سعود جثة الشيخ ورفاقه، ودفنها في مقابر مجهولة المكان مساء السبت، أصدرت عائلة النمر بياناً مساء أمس، ناشدت فيه السلطات السعودية تسليمها جثمان الشيخ لدفنه في بلدته العوامية. وأكّدت أن «الأحكام الشرعية والوضعية تقضي بأن يدفن الميت بحسب وصيته، إذا كانت له وصية، أو بحسب رغبة ذويه كحق أصلي من حقوقه وحقوقهم».
وفي السياق، رأى الناشط السياسي في القطيف، باقر، رفض تسليم السلطات جثمان النمر إلى ذويه أنه «أمرٌ متجذّر في الصبغة الإجرامية للنظام السعودي»، لافتاً إلى أنّ «من يعدم، لا تسلّم جثته إلى أهله، وفق القانون الوهابي»، إذ كانوا سابقاً يرمون جثث المحكومين بالاعدام في الصحراء، من دون تغسيل أو دفن. وذلك إهانة لأبناء «طائفة لديهم مراسم تغسيل ودفن، وخاصةً الشهداء، وهو شكل آخر من أشكال انتهاك القوانين الدولية».