هآرتس ــ أوري بار يوسيف
«السطوة العسكرية» بالنسبة لإسرائيل أكثر من سلاح لردع أعدائها، إنها إحدى الركائز الرئيسية لنهجها السياسي «التفاوضي» مع هؤلاء الأعداء. الرهان على هذه السطوة أوقع تل أبيب في حسابات خاطئة أكثر من مرة، وكانت نتيجتها حروباً غير متوقعة. وفي ما يأتي مطالعة تحذيرية لأحد الأكاديميين الإسرائيليين من احتمال الوقوع في خطأ جديد من نوع كهذا

لقد مرّ إمكان الشروع في عملية سياسية مع سوريا أمام أعيننا من دون أن نشعر تقريباً. رئيس الولايات المتحدة أوضح علانية أنه غير مهتمّ بالتدخل في هذه القضية. أما رئيس وزراء اسرائيل فلديه أمور أكثر إلحاحاً؛ و(الرئيس السوري بشار) الأسد كما هو معلوم لنا جيداً، لا يملك خياراً عسكرياً فعلياً ضد اسرائيل. لذلك، لا تثير التهديدات السورية بعدم استبعاد هذا الخيار في حال غياب مفاوضات سياسية، خوفاً كبيراً لدينا.
هذه اللامبالاة خاطئة. التاريخ يظهر أننا قدّرنا ثلاث مرات في الماضي، على الأقل، بأن خصومنا لا يملكون خياراً عسكرياً، ولذلك تستطيع إسرائيل أن تفعل ما تشاء. وفي تلك المرات الثلاث تبددت أوهامنا وثبت خطأنا. وقد دفعنا عن كلٍّ من هذه الأخطاء ثمناً باهظاً. لذلك يجدر بالمسؤولين عن أمن الدولة أن يأخذوا ذلك في الحسبان حتى لا نضطر مستقبلاً الى استخلاص العِبرة الرابعة الناجمة عن الخطأ الرابع.
هيمنت على المؤسسة الأمنية، بين عامي 1962 و1967، نظرية جاهزة مفادها أنه طالما كان ثلث الجيش المصري عالقاً في حرب أهلية طويلة في اليمن، لم يكن لدى جمال عبد الناصر خيار عسكري في مواجهة اسرائيل. هذه النظرية اجتازت سلسلة محكّات واختبارات قامت خلالها اسرائيل بتصعيد الصراع مع سوريا. الأمر وصل الى ذروته مع إسقاط طائرات «الميغ 21» السورية الست، التي سقط بعضها فوق دمشق في معارك جوية جرت في السابع من نيسان 1967.
قبل ذلك، قام الجيش الاسرائيلي باجتياح قرية السموع الاردنية وأهان جيش الملك حسين هناك. وماذا فعل جمال عبد الناصر، حامي حمى العالم العربي؟ لم يكن قادراً على فعل أي شيء لأنه لم يكن يملك خياراً عسكرياً في ظل تورط ثلث جيشه في اليمن.
ليس مفاجئا إذاً أن شعبة الاستخبارات العسكرية «آمان» قدّرت في آذار 1967 أن الحرب ليست متوقعة حتى عام 1972 أو 1973. بعد ذلك بأقل من شهرين، دخل الجيش المصري الى سيناء وكانت نهاية هذه العملية معروفة لنا. لماذا اتخذ جمال عبد الناصر قراراً سياسياً يتناقض مع المنطق العسكري؟ هناك أسباب كثيرة وراء ذلك، أهمها ممارسة ضغوط عليه حتى يقوم بعمل ما لكبح ما بدا في نظر العالم العربي غطرسة إسرائيلية. بكلمات اخرى، زادت اسرائيل من تجبرّها، فطفح الكيل وردّ جمال عبد الناصر.
بعد أقل من عامين على ذلك، في حرب الاستنزاف في قناة السويس، بدأت اسرائيل باستخدام سلاحها الجوي بحرية كأنه «مدفعية جوية». خلال فترة قصيرة، مالت الحرب لمصلحتها. أجواء مصر كانت مفتوحة تماماً، ومع اقتراب نهاية عام 1969 اتخذ قرار بشن هجمات في عمق الأراضي المصرية لإجبار جمال عبد الناصر على وقف اطلاق النار أو إسقاطه من خلال إظهاره قائداً غير قادر على الدفاع عن بلاده بما فيها القاهرة أو الإسكندرية.
تقديرات «آمان» كانت أن الاتحاد السوفياتي لن يتدخل في الصراع، سواء لأنه لا يمتلك الوسائل لذلك أو لأنه يخشى من حدوث مجابهة مع الولايات المتحدة. في بداية عام 1970، بدأت عمليات القصف على عمق الأراضي المصرية وازداد الضغط على مصر والاتحاد السوفياتي بشكل ملموسة. في آذار 1970، اتضح أن السوفيات، خلافاً لتقديرات اسرائيل، كانوا يمتلكون خياراً عسكرياً، وأنهم سيستخدمونه كذلك. فرقة من المضادات الجوية السوفياتية، يبلغ تعدادها عشرة آلاف جندي و25 بطارية صواريخ ارض ـــــ جو ومئة طائرة حربية، انتشرت في مصر. في نهاية المطاف، وافقت اسرائيل على وقف اطلاق النار والشروع في عملية سياسية لمنع عملية التصعيد.
كل محاولات التوصل الى تسوية جزئية أو كاملة ضُيّعت حتى شهر تشرين الأول 1973. رأت اسرائيل أن إسدال الستار على العملية السياسية لا ينطوي على مخاطر عسكرية حقيقية، لأن العرب مثلما هو معروف لا يمتلكون خياراً عسكرياً. قبل أيام قلائل من اندلاع حرب يوم الغفران، قدّر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية آنذاك أن مصر لا تستطيع شن حرب شاملة خلال السنوات الخمس المقبلة. كذلك قدّر وزير الدفاع أننا لن نشهد حرباً كبيرة خلال السنوات العشر المقبلة. حينئذ أطلّت الحرب برأسها وتبيّن لنا سوء تقديرنا مرة اخرى، ودفعنا الثمن دماً لاعتقادنا بأن الطرف الآخر لا يملك خياراً عسكرياً.
الوضع اليوم لا يختلف كثيراً. صحيح أن الجيش الاسرائيلي أقوى من الجيش السوري، إلا أن ذلك لا يعني أن الأخير لا يمتلك القدرة على إيلام اسرائيل، وأن السوريين لن يستخدموه مرغمين رغم المخاطر التي ينطوي عليها ذلك. المنطق العسكري الذي يسيطر على التفكير الاستراتيجي الاسرائيلي يميل إلى تهميش وزن الاعتبارات السياسية التي تدفع سوريا الى سلوك طريق القوة. اذا حدثت مثل هذه الانعطافة، وإذا دفعت اسرائيل ثمناً باهظاً جراء ذلك، فسيكون بإمكاننا أن نجلس بعد سنوات ونتباكى مرة اخرى مُنتحبين بسبب الخطأ الذي تمثل بإهمال الطريق السياسي انطلاقاً من عدم وجود خيار عسكري لدى الخصم، والثمن الباهظ الذي دفعناه جراء ذلك.