strong>حملة محو التاريخ العربي والإسلامي في فلسطين المحتلة كانت جزءاً من عملية إبادة شاملة، لم تكتفِ باقتلاع شعب بأكمله من أرضه، بل عمدت إلى إزالة كل أثر يدل على وجوده التاريخي
كشفت وثائق من أرشيف الجيش الإسرائيلي، تم نشرها أمس، أن هذا الجيش عمل منذ قيام الدولة العبرية عام 1948 على إزالة آثار قرى وبلدات عربية جرى تهجير سكانها ومحوها من الوجود وتنفيذ حملات غايتها تفجير مساجد وأضرحة أولياء بأوامر صادرة عن قائد الجبهة الجنوبية في حينه موشيه ديّان.
وتناول تقرير، تنشره صحيفة «هآرتس» في ملحقها الأسبوعي اليوم الجمعة، حملات تدمير المعالم العربية في فلسطين المحتلة عام 1950، وخصوصاً الأماكن المقدسة.
ويوضح التقرير أن ديان، الذي تولى في سنوات لاحقة منصب رئيس الأركان وحقيبتي الدفاع والخارجية، أصدر في شهر تموز 1950 أمراً بهدم مقام «مشهد الإمام الحسين»، الذي تم بناؤه في القرن الـ11، وهو مقام مقدس لدى المسلمين إذ يُعتقد أن رأس حفيد النبي محمد مدفون فيه، ما جعله مزاراً.
ويقع «مشهد الحسين» في مدينة مجدل عسقلان، التي تحول اسمها بعد قيام إسرائيل إلى «أشكلون»، وكان لا يزال يقيم في المدينة قرابة 3000 من سكانها العرب حتى عام 1950، أي بعد سنتين من قيام الدولة العبرية، وبعد فترة قصيرة جرى ترحيل العرب منها.
وشملت حملة تفجير المساجد تدمير أكثر من 120 مسجداً من أصل 160 مسجداً، كانت قائمة في القرى والمدن الفلسطينية قبل عام 1948. لكن هدم «المشهد» يتميز بوجود وثائق عن أوامر ديّان بتفجيره ضمن حملة شملت تدمير مسجدين آخرين على الأقل في يبنة، التي أصبحت مدينة يهودية باسم «يافنيه»، وأزدود التي أصبح اسمها «أشدود».
وكتب الوثائق رئيس دائرة الآثار الإسرائيلية شموئيل ييفين. وبحسب باحث الآثار الإسرائيلي راز كلتر، الذي أجرى بحثاً عن أعمال الحفريات الأثرية في العقدين الأوّلين لقيام إسرائيل، فإن ييفين لم يكن نشطاً سياسياً كما لم يكن نشطاً في مجال منح الحقوق للعرب الباقين في البلاد بعد حرب 1948.
وكتب ييفين، في رسالة إلى رئيس شعبة العمليات الخاصة في الجيش الإسرائيلي ورئيس أركان الجيش يغئال يادين في 24 تموز 1950 عن تدمير «المشهد»، أن «هذا المبنى كان لا يزال قائماً عندما زرته أخيراً في 10 حزيران ما يعني أن سلطات الجيش لم تجد سبباً لهدمه منذ أيام الاحتلال (في 1948) حتى منتصف 1950، كما يصعب علي أن أعتقد أن هناك علاقة بين تفجير المكان وموضوع المتسللين، لأنهم لم يتوقّفوا عن التسلل إلى المنطقة طوال الوقت».
وطالب ييفين، في رسالته، بأنه إذا تقرر «هدم مبان مقدسة، فإن الأصول والآداب تقتضي بحث الأمر مع المؤسسات المشرفة على هذه المناطق والمباني والتشاور معها لإيجاد طرق لمنع عمليات التدمير». وأضاف «لقد بلغني أنه في الساعة نفسها، جرى تفجير المسجد في القرية المهجرة أشدود، وهذه ليست الحالة الأولى، فقد سنحت لي فرص عديدة للفت نظركم إلى حالات كهذه في أماكن أخرى كما أن رئيس الأركان أصدر أوامر واضحة في ما يتعلق بالحفاظ على أبنية وأماكن كهذه، لكن على ما يبدو، فإن كل هذا لا يفيد ضباطاً من نوع معين، وأعتقد أنه يجب محاكمة ومعاقبة الضابط المسؤول عن التفجير، لأنه في هذه الحالة لم يكن هناك أي مبرر لتنفيذ عملية سريعة مشروطة بأعمال قتالية».
ورغم أن رئيس الأركان الإسرائيلي يادين كان عالم آثار، وأصبح لاحقاً عالم الآثار الأول في إسرائيل، وهو ابن عالم الآثار اليعزر سوكينيك، فإنه لم يتأثّر بأعمال تدمير مواقع مقدسة وذات الأهمية الأثرية والتاريخية البالغة. وكتب أن شكوى ييفين لا تتضمّن شيئاً جديداً.
ورد ديّان على رسالة ييفين في رسالة مؤرخة بـ10 آب وتحت عنوان «هدم مكان مقدس»، قائلاً «أولاً، أطلب الرد على هذه الرسالة شفوياً أمام رئيس الأركان. ثانياً، التفجير تم على أيدي منطقة السهل الداخل وبموجب أمري أنا».
وكرّر ديان، في رسالة أخرى في نهاية الشهر نفسه، تحت عنوان «بخصوص المسّ بآثار في منطقة أشكلون»، قائلاً «لقد توجه إلي رئيس الأركان وأبلغته بإيضاحاتي؛ وتم تنفيذ العملية وفقاً لأوامري». وردّ يادين على ييفين بالقول إنه «حدث خطأ وهذا لن يتكرر مرة أخرى».
ونقلت «هآرتس» عن الضابط المتقاعد والمؤرخ مردخاي بار أون، الذي كان سكرتير ديان عندما أصبح بعد سنوات رئيساً للأركان، قوله «كقائد سرية في الجبهة الوسطى، قمنا بطرد العرب من (قرية) زكريا، لكننا لم نهدم المسجد ولا يزال قائماً حتى اليوم، وأنا أعرف أنه في الجنوب، في قرى برير وبهوج (قرب غزة)، تمت تسوية المباني بالأرض واختفى المسجد معها، لكني لم أسمع بوجود أمر بهدم مساجد فقط وهذا لا يبدو لي معقولاً».
وفي كتابه «ماض وحسب؟ بدايات علم الآثار الإسرائيلي»، الذي صدر في بريطانيا العام الماضي، أشار كتلر، الذي عمل في سلطة الآثار الإسرائيلي في العشرين عاماً الماضية، إلى أن «قصة علم الآثار الإسرائيلي يبدو أنها قصة تدمير، إنه تدمير قرى ومدن من الأساس، تدمير حضارة بأكملها على حاضرها وماضيها، بدءاً بآثار الحثّيّين التي تعود إلى 3000 عام حتى كنس في أحياء عربية تم هدمها وإلحاق أضرار بمدرج روماني نادر وتفجير قلاع».
وبحسب كتلر، فإن القليل من أعمال الهدم التي نفّذها الجيش الإسرائيلي تمت أثناء المعارك عام 1948 وغالبيتها تمت بعد انتهاء القتال وقيام إسرائيل، لأن «آثار الماضي العربي لم تتناسب مع المشهد الجديد وذكّرت بحقائق أراد الجميع نسيانها».
وقال كتلر إن التوجّه العلمي لدى ييفين «لم يتلاءم مع التوجهات القومية في سنوات الخمسين لأن (رئيس الوزراء الإسرائيلي) دافيد بن غوريون أراد محو كل ما كان، ومحو الماضي الإسلامي».
وخلص كتلر إلى القول إن «حظّ هذه البلاد هو أنها مليئة بالآثار التاريخية التي لم يكن بالإمكان تدميرها كلها، لكن حتى تلك التي تم تدميرها، ما زالت تعيش بشكل ما حياة أخرى. فقد جرت تسوية مشهد الإمام الحسين بالأرض في عام 1950، لكن المؤمنين المسلمين لم يتنازلوا عنه وأقام أبناء الطائفة الإسماعيلية قبل سنوات ما يشبه منصة صغيرة مصنوعة من الحجر في المكان الذي وُجد فيه المقام القديم ومنذ ذلك الحين يزور آلاف المؤمنين المكان».
(يو بي آي)