حيفا ــ فراس خطيب
العنصريّة الإسرائيلية البادية في جدار الفصل المبني في الضفّة الغربية، ليست الأولى، بل سبقتها عنصريّة ضد فلسطينيي 48، عبر جدران في أحياء عربية في المدن المختلطة وقرى متاخمة للمدن اليهودية. وخلال السنوات الأخيرة، بني في اسرائيل، ثلاثة جدران فاصلة، في اللد والرملة وجسر الزرقاء تهدف إلى «الفصل العرقي» بين اليهود والعرب

  • حيفـــا واللـــد والرملـــة نمـــاذج فصـــل عنصـــري لفلسطينيّي 48 عـــن اليهـــود


  • الجدران الفاصلة داخل إسرائيل، والموجهة ضد فلسطينيي 48، ليست منتشرة، لكنّها خطيرة للغاية. تجعل من المناطق المتضررة «غيتوهات»، ويكرس تفاقمها «نظام الأبرتهايد» في الدولة العبرية.
    ولعل أكثر ما يقلق في هذه الحالات أنَّ المبادرات إلى بناء جدران فاصلة، لا تعبّر فقط عن حالٍ سلطوية، بل هي في الأصل مبادرات شعبية، بدأت لدى سكان يهود بادروا إلى هذا الغرض مدعومين بقرارات حكومية. مبادرات تحوّلت مع مرور السنوات، إلى استراتيجيات متبعة، مدعومة أيضاً من بعض «أكاديميي الديموغرافيا» لـ «منع العرب من التوسع والانتشار».
    العرب، حالياً، يلتمسون لدى المحاكم الإسرائيلية وقف هذه الممارسات، والمحاكم بدورها تماطل. وإذا جُمّد بناء جدار، يكون التجميد تقنياً نظراً لعدم وجود «تصاريح للبناء»، وليس من ينفذ القرار أيضاً.
    منعاً لـ«توسّع العرب»
    قبل أيام، أصدرت المحكمة المركزية في تل أبيب قراراً بـ «تجميد» بناء جدار فاصل بين حيَّي «نير تسفي» اليهودي وبيارة شنير العربي في مدينة اللد قرب تل أبيب في منطقة المركز. لكنَّ «التجميد» لا يعني الهدم. الجدار صار حقيقة هناك، وبني جزء كبير منه قبل التجميد أصلاً.
    المبادرة إلى إقامة الفاصل بين الحيين انطلقت منذ عام 1997. ففي رسالة بعث بها المبادرون إلى مكتب رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك بنيامين نتنياهو، أشاروا إلى أنَّ الجدار أعدَّ من أجل «تقليص» عدد السكان العرب في مدينة اللد ومنع «سيطرتهم على أراضي المنطقة».
    وكتب البروفيسور أمنون سوفير، من جامعة حيفا، في حينه، أنَّ بناء الجدار في قلب مدينة اللد «سيمنع سيطرة العرب على الأراضي وسيساعد على الحد من ازديادهم في المدينة». وإذ ادّعت حكومة ارييل شارون أنَّ جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية أعدَّ لمنع «تسلّل المخربين»، فإن سكان «نير تسفي»، يخشون، حسبما يدّعون، «من تسلل اللصوص، وسرقة السيارات». إلا أنَّ الأهالي العرب ليسوا مقتنعين بمثل الادعاءات هذه، ويرون أن «هدف الجدار هو الفصل بين العرب واليهود على أساس عرقي»، بحسب تعبير أحمد، أحد سكان المدينة لـ «الأخبار».
    اللد مدينة مختلطة، سكنها قبل النكبة ما يقارب 40 ألف فلسطيني، لم يبق منهم سوى ألف بعد النكبة. تحولت المدينة بعد النكبة إلى «مختلطة» فيها غالبية يهودية. عدد سكانها اليوم 74 ألف نسمة، 27 في المئة منهم من العرب، غالبيتهم يعيشون في أحياء فقيرة ويعانون شروطاً حياتية سيئة وظروفاً اجتماعية صعبة، قادت إلى تكتلات إجرام ومخدرات في وقت لا تعمل الشرطة الإسرائيلية على استئصال هذه الظواهر.
    الحي العربي «بيارة شنير»، يقع في محاذاة حي «نير تسفي»، الذي يسكنه يهود من الطبقات المتوسطة وما فوق. خططت بلدية اللد، لمرور شارع في «نير تسفي»، عارضه الأهالي اليهود، واشترطوا موافقتهم على مرور الشوارع ببناء جدار يفصلهم عن الحي العربي بيارة شنير، ارتفاعه أربعة أمتار، يبنى من الباطون الصلب والحديد، وطوله 1.5 كيلومتر.
    طالب السكان اليهود، من دون تحفظات، أن تمول وزارة المواصلات الاسرائيلية بناء الجدار وصيانته. في تموز عام 2003، منحت اللجنة المحلية للتنظيم رخصة بناء تسمح بإقامة جدار. وبالفعل، شرع ببنائه.
    يقول خالد الزبارقة، أحد سكان الحي، لـ«الاخبار» إنَّ «تأثيرات الجدار الفاصل ليست فقط تقنية بل نفسية»، مضيفاً «بمجرد أن تصحو وتجد جداراً بهذه البشاعة، ينتابك شعور صعب».
    ويفند الزبارقة ما جاء على لسان السكان اليهود من أن «العرب لصوص ويحدثون ضجة»، بقوله «اذا سرق أحد العرب دراجة هوائية من أحد البيوت فهل الحل هو بناء جدار؟ ما يدّعونه هو زور وبهتان. ما يحصل من سرقات أمور عادية تحدث في اسرائيل، ومعدلها لا يفوق المعدل في الدولة كلها. هناك أحياء فقيرة في تل أبيب يعيش فيها لصوص، لم نر ذات يوم أنهم اغلقوها بالجدران».
    أهالي بيارة شنير يعانون أوضاعاً مأساوية. اليوم، إذ في أعقاب بناء الجدار، بات عليهم الالتفاف عبر طريق طويلة للوصول إلى مستشفى «صرفند». ويقول البعض منهم إنَّ الجدار «أغلق مسار الهواء». ثم إن الذي يدخل الحي لا يرى سوى أفق مغلق. جدران وأسلاك حديدية. «وهكذا يبدو أيضاً التفكير في المستقبل».
    «يمنعون البحر عنّا»
    على مقربة من مدينة حيفا جنوباً، تقع قرية جسر الزرقاء الفلسطينية. يسكنها أكثر من 10 آلاف يعانون من وضع اقتصادي واجتماعي صعب للغاية. تعاني البلدة من مسطح بناء ضيق للغاية، لا مجالات تطويرية، ولا بنى تحتية ملائمة، وفقر وبطالة. تقع هذه القرية الى جانب قيسارية، مدينة ميناء فلسطينية. سكنها قبل النكبة ما يقارب ألف فلسطيني، هجّرتهم عصابات «الهاغاناة». اليوم، لا يسكنها سوى أغنياء اليهود. باتت قيسارية مرتعاً للأغنياء أصحاب السفن الخاصة ولاعبي «الغولف». منطقة سياحية، الشق السكني فيها تملأه العمارات الحديثة. لكل بيت حديقة ومدخل خاص وسيارة فخمة.
    في نهاية عام 2002، استيقظ أهالي جسر الزرقا على واقع جديد؛ «الجيران» من قيسارية يبنون جداراً ترابياً يفصلهم عن جسر الزرقا. وأقامت السور وموّلته شركة تطوير قيسارية، من دون ترخيص قانوني ومن دون التنسيق مع مجلس جسر الزرقاء المحلي ومن دون علم سكان القرية. يمتد الجدار أيضاً على طول 1.5 كيلومتر، وارتفاعه خمسة أمتار. أهالي قيسارية عمدوا إلى إكساب الجدار منظراً طبيعياً، إذ زرعوا الورود في تربته.
    الشركة التي بادرت إلى بناء الجدار ادعت بأنّهَ «مانع للصوت»، علماً بأنَّ منع الصوت لا يمكن من خلال أسوار ترابية. السكان قالوا إنهم ينزعجون من صوت الموسيقى والمؤذن والحفلات والالعاب النارية، و«آفة السرقات». كذلك ادّعوا أن الأحياء الشمالية من قيسارية المجاورة للقرية العربية «انخفضت قيمتها» في هذه المنطقة.
    بحسب تقرير «المؤسسة العربية لحقوق الإنسان»، فإن الجدار الترابي يمنع إمكان شق شارع التفافي للقرية، مثلما هو مخطط له من قبل. كذلك فإنه يمس بشكل قاسٍ بالمحيط الخلاب، إذ يسد منظر البحر والطبيعة ويؤدي الى الاكتئاب والإحباط لدى سكان الحي الجنوبي في القرية.
    الرملة
    مدينة الرملة المختلطة، تقع بمحاذاة مدينة اللد. رئيس بلديتها، يوئيل لافي، يطلق التصريحات العنصرية ضد العرب من دون رادع. «اذا أردتم أسماءً عربية لشوارعكم فاذهبوا الى جلجولية (قرية عربية في المثلث)»، هكذا قال لافي للمطالبين العرب بأسماء شوارع عربية في مدينتهم الأصلية.
    في الرملة يعانون من الفقر والإجرام. هناك أحياء عربية لا يمكن تخيلها أصلاً في عام 2007. الفرق واضح بين الاحياء العربية واليهودية. أطفال يمشون بضعة كيلومترات للوصول إلى المدرسة. بيوت مهددة بالهدم، ورئيس بلدية يحظى دائماً بغالبية ساحقة رغم التفوهات العنصرية، فهو، حسبما يقوله بعض العرب، «ليس بحاجةٍ إلى أصوات العرب كي ينجح، لذا لا يعيرنا اهتماماً».
    سكن مدينة الرملة 20 ألف فلسطيني قبل النكبة، تحوّلت الى مختلطة في ما بعد. يسكنها اليوم ما يقارب الـ 63 ألفاً. 19 في المئة من العرب والباقي يهود.
    اقيم في مدينة الرملة حي «يافيه نوف»، يسكنه 700 يهودي. وفي منتصف التسعينيات اقيم حي آخر للمهاجرين الروس اسمه «غاني دان». وهناك أيضاً بني جدار يفصل المنطقة اليهودية عن حي الجواريش العربي. جدار طوله كيلومتران. الحجج نفسها، والعقلية نفسها في قيسارية واللد والرملة. والجدار ايضاً نفسه. العرب لا يزالون يعارضون هذه الانتهاكات. «سدوا عنا الهواء والرؤية» في وقت لا تسعف الاحتجاجات. يشعرون بـ «الإهانة»، في وقت يرى فيه السكان اليهود أنَّ «الحالة طبيعية».
    يشير المحامي طارق إبراهيم، من «المؤسسة العربية لحقوق الانسان»، التي تعرض القضية، أنَّ «عقلية الجدران تتفشى». يقول «أنا أعمل في هذا المجال. تصلني أنباء أحداث كثيرة. هناك اناس يخافون التحدث بالعربية في الاماكن العامة والحافلات خشية تعرضهم لاعتداءات. هذه وضعية لا تبشر بخير»، مضيفاً أن «كون الفلسطينيين في الداخل يملكون هويات اسرائيلية فإنَّ هذا لا يحصنهم من ممارسات الابرتهايد الاسرائيلية»، محذراً من «مستقبل فيه حكم عسكري».



    ممنوع السكوت!

    القضية لا تقتصر على الجدران فقط. في أماكن أخرى داخل إسرائيل، يحاول اليهود منع العرب من الباحثين عن جودة حياة أفضل، من العيش في مناطقهم. قبل شهر، عمل سكان إحدى العمارات في مدينة عكا على منع يهودي من أن يبيع بيته لعربي، وجمعوا أموالاً على حسابهم الخاص ليدفعوا أكثر من العربي كي لا يحظى بالبيت. تشهد المدينة أحياناً أيضاً «حركة نزوح» لليهود من الاحياء اليهودية في حال ازدياد العرب.
    في شهر آذار 2004، «لجنة العمل من أجل مغدال» علقت في بلدة مجدال، الواقعة على شاطئ بحيرة طبريا، إعلانات جاء فيها ما يأتي: «خطر على مجدال وسكانها!!! استيقظوا!!! بعد أن يهدموا الدولة كلها هم يريدون السيطرة على مجدال أيضاً، نشهد في الفترة الأخيرة محاولة سيطرة عناصر غير يهودية على البلدة. حالياً يسود الهدوء. لكن هذا الهدوء هو هدوء مؤقت وهم ينتظرون اللحظة المناسبة لكي يحققوا أهدافهم. إذ إن مصطلح تحرير البلاد تعلموه منّا. متى نصحو؟ عندما لا تستطيع بناتنا الخروج من البيت؟ عندما لا يستطيع الأولاد اللعب في رياض الأطفال؟ عندما تهبط أسعار الشقق؟ عندما تصبح مجدال معقل نشاط التعصب القومي؟ عندما يصل الإجرام والرعب الى مداخل بيوتنا؟ عندما تدوّي أجراس الكنائس؟ عندما يفزع المؤذن أسماعنا؟ لا يجوز أن ندع ذلك يحدث، ممنوع السكوت».