سألتني الصديقة الصحافية رشا أبي حيدر بعد ساعات من إعدام الشيخ النمر، بت أشك في القرآن، أريد أن أعرف هل هناك آية تأمر بقطع الرأس؟ قلت لها لا، لكن الأمر لا يحتاج إلى آية، أن يُعدم النمر بقطع الرأس أو رمياً بالرصاص، يحتاج ليس إلى الآية بل يحتاج إلى هيئة كبار العلماء يقولون كما جاء في بيان وزارة الداخلية السعودية «إن هذه البلاد التي اتخذت من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم- منذ قيامها دستوراً ومنهاجاً لها، لن تتوانى عن ردع كل من يهدد أمنها».
ليس هناك دستور لا عقدي ولا منحة ولا أي شكل من أشكال المنظومات القانونية الحديثة، لذلك لم نجد في بيان الداخلية أي إشارة لمادة قانونية أو وثيقة. هناك شريعة مترعة بالشيء ونقيضه، تغرف منها هيئة كبار العلماء الشرعية وتُكيّفه وفق ما يريد ولي الأمر.
ما الشرعية التي تستند إليها «هيئة كبار العلماء السعودية»؟
هيئة كبار العلماء هي هيئة دينية حكومية تأسست عام 1971 وتضم لجنة محدودة من الشخصيات الدينية، يعيّنون بأمر ملكي، ورئيسها هو مفتي الديار السعودية، ولا تزال الرئاسة وقفاً على ذرية محمد بن عبد الوهاب، كما المُلك وقف على ذرية بن سعود. هناك مرويات أنتجتها سلطات سياسية طوال تاريخنا المبتلى بالقتل والدم، سلطات تعد نفسها المتحدثة باسم الجماعة والأمر والأمة ومعارضتها تفريق للجماعة وعاقبتها دوماً السيف والرقبة، باسم هذه الشرعية تتحدث «هيئة كبار العلماء السعودية» هكذا: «من فارق الجماعة شبراً فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه» هكذا تشرعن لأي معارضة ضدها فتصفها بأنها خلع لربقة الإسلام «عقد الإسلام»، وكي تحافظ على ربقة الإسلام وبيضته، فليس هناك غير سيف ولي الأمر «فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع؛ فاضربوه بالسيف كائناً من كان».
أسّس محمد بن عبد الوهاب شرعية التوحيد المتوحش

ما يهدد استفراد «ولي الأمر» بالسلطة يفسر بأنه خروج على «التوحيد» و«خلع لربقة الإسلام». لقد وضع التوحيد كآلية ضبط سياسي ضد رقاب القبائل والجماعات غير المنضبطة ضمن أمر السلطة، وبهذا الضبط جرىإخضاع الجزيرة العربية.
أسس محمد بن عبد الوهاب هذه الشرعية، شرعية التوحيد المتوحش، القائم على حد سيف آل سعود وصيغة عقائدية سلفية ضيقة. وغدت هذه الشرعية منهج عمل منذ لحظة تحول اتفاق الدرعية إلى وثيقة سياسية، في رسائله إلى القبائل والمناطق. كانت الدعوة إلى الإسلام تجري باسم هذه الشرعية، على سبيل المثال رسالته إلى قاضي الشافعية، مرجع الشافعية وقاضيهم في الأحساء، الشيخ عبدالله بن عبد اللطيف الأحسائي (1689-1751): «لا أبعد أن يهديك الله إلى الصراط المستقيم، ويشرح قلبك للإسلام». وردت هذه الرسالة في كتاب أول مؤرخ لحركة الوهابية والدولة السعودية الأولى حسين بن غنام (ص252)، والكتاب مرجع تعتمده الدولة السعودية، وعنوانه («روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعدد غزوات ذوي الإسلام») يعطي فكرة قاطعة لهذه الشرعية. الحال هو حال الإمام محمد بن عبدالوهاب وأفكاره عن التوحيد، و«غزوات ذوي الإسلام» هي معارك جيش الدولة السعودية، فالتاريخ مكتوب من زاوية هذه الشرعية، جيش الدرعية هو جيش المسلمين، وبقية القبائل السنية (غالباً) التي يقاتلها جيش المسلمين في نجد وخارج نجد لاحقاً، هم الكفار.
مفردات معجم تاريخ ابن غنام، هي: جيش المسلمين، الغزو، الغنائم، السبايا، الشرك التوحيد، الكفر، الفتح. وهو المعجم التكفيري الذي ما زال فاعلاً في خطاب الدولة وخطاب الجماعات التي تمثلها أو التي ولدت من صلبها.
إن وفاء آل سعود لميثاق الدرعية (1744) يجد ترجمته في العمل بهذه الشرعية، وقد عملت السعودية بإعدامها للشيخ النمر، بأصلها الذي قامت عليه. ظلت وفية لهذا الأصل لا تنفك منه، تجد شرعيتها فيه وأمنها وأمانها بالتمسك به، إنه التوحيد الوهابي المتوحش. سكّه لها محمد عبد الوهاب في كتابه «التوحيد» وكأنه عملتها التي يقوم عليها اقتصادها في كسب ولاءات الجماعات. لقد قلت الاقتصاد وفي ذهني كتاب «الاقتصاد في الاعتقاد» وهو أشهر كتب العقيدة في تراثنا، العقيدة التي سكتها من قبل الدولة السلجوقية وحدّدت به أعداءها العقائديين والسياسيين. اقتصاد الدولة السعودية يقوم على عملة هذا التوحيد ووجه هذه العملة الثاني هو التكفير، وكان محمد بن عبد الوهاب يرسل رسائله عبر بريد الدولة السعودية الأولى: أدعوكم أن يشرح الله قلبكم لإسلام هذا التوحيد الذي فتحه الله علي. وما زال هذا البريد يرسل دعاته في كل مكان في العالم ليؤسسوا «روضة الأفكار والأفهام الوهابية».
* كاتب وباحث من البحرين