اللاذقية | بصوت عالٍ يصرخ كنان وهو يقفز دون توقف، مستنداً بذراعيه إلى سور الشرفة. أهالي الحي، «مشروع البعث» في اللاذقية، باتوا متآلفين مع صراخه، لكنهم سيضطرون إلى أن يوضحوا لضيف غريب أن لا داعي للجزع: «إنه صبي متوحّد». مع زيادة ساعات التقنين الكهربائي التي رافقت الحرب، أضيفت إلى مشاكل كنان مشكلة إضافية، فانقطاع التيار الكهربائي مساءً يزيد من توتره، فيزداد صراخه. هو لا يفهم سبب هذه العتمة الحالكة، ولن يهدأ قبل أن تعطيه والدته علبة «العلكة»، فيأخذها وينزوي ليمضغ الحبات الصغيرة.
«سيهدأ لنحو عشر دقائق» تقول والدته، شهيدة سلوم، وتتابع، بما يشبه الاعتذار عن صراخ ابنها (21 عاماً): «الصراخ والقفز لساعات على الشرفة عادة رافقته منذ سنين، لكنه أحياناً يصاب بنوبات غضب فجائية، تزايدت مع انقطاع الكهرباء». سلوم، مؤسِّسة «جمعية التوحد» في اللاذقية، تروي في حديثها مع «الأخبار» سبب فشل محاولاتها لدمج ابنها في المدرسة، لكونه غير قادر على التواصل للتعبير عن نفسه وعن حاجاته، رغم وجود قانون خاص بدمج ذوي الاحتياجات الخاصة في المدارس العامة. وتضيف: «كنت أرافق كنان إلى المدرسة يومياً وأنتظره عند باب الصف.
رُفع إيجار مقرّ الجمعية من 28 ألف ليرة قبل الحرب إلى 65 ألف
كان يجلس في المقعد الأخير، مديراً ظهره لباقي الطلاب، ويرفض التجاوب مع المعلمة». هذه المعاناة التي عاشتها والدة كنان، يشاركها إيّاها الكثير من آباء أطفال التوحد وأمهاتهم، المنهكين جرّاء أوضاع أبنائهم، والمجروحين من عدم تفهم المجتمع لحالتهم. «يؤلمني أن يشير أحدهم إلى ابني على أنه متخلف عقلياً أو مجنون. وهذا يحدث كثيراً، ومعاناتي مع جهل المجتمع أشد قسوة وعنفاً من تفاصيل الحياة اليومية التي أعيشها مع ابني»، يقول طبيب الأسنان، ياسر قاصو. ويوضح لـ«الأخبار»، كيف شُخِّصت حالة ابنه سيمون، 12عاماً، بأنها «متلازمة اسبرغر» (طيف من أطياف التوحد) وأعراضه أقلّ حدّة من أعراض التوحد «لكونه قادراًعلى النطق، والتعبير إلى حدّ ما» مشيراً إلى أن ابنه طلب، منذ فترة، «سماعات يضعها على أذنيه ليستمع إلى الموسيقى كي لا يسمع تعليقات الناس عن حذائه المهترئ الذي يصرّ على ارتدائه، ويرفض ارتداء حذائه الجديد» (صعوبة التغيير سمة من سمات التوحد).
في ظل هذا العجز عن الاندماج في المجتمع، نشأت فكرة إنشاء جمعية تحتضن هؤلاء الأطفال، وتكون بديلاً لهم عن المدرسة، وتعمل على تقديم الرعاية التعليمية والصحية والتربوية لهم. وهكذا تأسست «جمعية التوحّد» عام 2006 «لتكون المنقذ للعشرات من العزلة والتمييز والرفض المجتمعي» تقول شهيدة سلوم. وتتابع شارحةً: «بات لكلّ طفل توحد عائلة ثانية تتواصل معه وفق برنامج تربوي فردي خاص به، وبأهداف مرحلية تتطور تدريجاً. أما الذين فاتهم قطار التعليم، نتيجة التأخير بتشخيص حالتهم، ممن تتجاوز أعمارهم الثالثة عشرة، فيلتحقون بقسم التأهيل المهني، ليتعلموا صناعة الأكسسوار، وتزيين بطاقات المعايدة. وتباع منتجاتهم في معارض يعود ريعها لهم».
الجمعية لفتت نظر السيدة الأولى أسماء الأسد، فساعدت في تخصيص قطعة أرض لبناء قرية نموذجية لأطفال التوحد، تتكفل مؤسسة خيرية بتكاليف إقامتها، وتتضمن سكناً للمتوحدين الأيتام، ومن لا تتوافر لهم الرعاية المناسبة حيث يقيمون، فضلاً عن إقامة ورش عمل لتأهيلهم مهنياً، وتوفير مصدر دخل ثابت للقرية. المشروع «الحلم» دمرته الحرب، إذ بات جلّ اهتمام الدولة منصبّاً على دعم المجهود الحربي، ولم يعد المبلغ المطلوب لبناء القرية متاحاً، في ظلّ الأوضاع الراهنة، ولم يكن هذا هو الضغط الوحيد الذي تعرضت له الجمعية، فالضغط الحقيقي ـ بحسب سلوم ـ كان حين بدأ تجار الأزمة برفع إيجارات البيوت. «رُفع إيجار مقر الجمعية من 28 ألف ليرة، قبل الحرب، إلى 65 ألف ليرة. والجمعية لا مصدر دخل لها سوى مبلغ شهري بسيط يُسهم فيه الأهالي (3 آلاف ليرة)، كذلك تضاءلت التبرعات مع الحرب بسبب توجه أصحاب رؤوس الأموال لدعم أسر الشهداء والمهجرين»، تقول. وتتابع شارحةً بعض الإجراءات التي اتخذتها الجمعية لضمان استمرارها في العمل: «قرّرنا رفع القسط الشهري إلى 5 آلاف ليرة، لتأمين الإيجار من جهة، وللاستمرار في نقل الأطفال من الجمعية وإليها، في ظلّ ارتفاع سعرالمازوت، وشرائنا له في الغالب من السوق السوداء، لنفاجأ لاحقاً بصاحب المقر يطالبنا بمئة ألف ليرة، ملوحاً بأن الإيجار بعد ستة أشهر سيصبح 150 ألف ليرة». وتختم سلوم حديثها بالقول إنّ العجز عن دفع الإيجار الشهري سيكون سبباً لفقدان مقر الجمعية، وزعزعة الاستقرار النفسي لأطفال «سيكون مصيرهم العزلة وراء الأبواب المغلقة، وحرمانهم التعليم والرعاية»، وفي الوقت الذي تعتبر فيه الجمعية الملاذ الوحيد لأطفال التوحد في المدينة، سيسبب إغلاقها آثاراً سلبية كبيرة عليهم وعلى عائلاتهم التي لن تقدر بمفردها على رعايتهم.