منذ ستينات جمال عبدالناصر، لم تدوّي صرخة الحقيقة، في الفضاء العربي، مثلما دوّت، أمس، في مهرجان التضامن مع الشعب اليمني في بيروت. حسمها السيّد، وحدّد، بدقة ووضوح، المهمة الرئيسية لحركة التحرر الوطني العربية (المهمة الغائبة والمغيّبة منذ هزيمة حزيران 1967، وبسبب تداعياتها)، والمتمثلة في المواجهة مع النظام السعودي وهزيمته، كشرط لازم لهزيمة المشروع الصهيوني، والتبعية السياسية، والتخلف الثقافي، والتأخر الاقتصادي والاجتماعي في البلدان العربية، ولاستئصال الطائفية والمذهبية والتكفير والإرهاب في العالم العربي والإسلامي.
ظهرت الوهّابية ــــ السعودية، بالأساس، كتنظيم صحراوي إرهابي في نجد، مستندةً إلى نسخة دينية تقطع مع كل تراث الإسلام الحضاري، وتلغي كل أشكال التعددية المذهبية والدينية والثقافية التي صاغتها المجتمعات العربية والإسلامية، طوال قرون من الجهد الإنساني، لتفرض منهجاً مستنبطاً من الإسرائيليات، وتحل إلهاً مستعاراً من «يهوه»، إله الجنود والموت، محل الله الرحمن الرحيم. عقلية الكراهية على المدنية والحقد على البشرية، اندمجت مع عقلية الغزو والقتل والسبي، لتؤسس «دولة» سوداء القلب والعقل والضمير، رعتها الامبرياليتان، البريطانية والأميركية؛ فمكّنتها من السيطرة، بالعنف الدموي الإجرامي على المناطق الأكثر تحضّرا في الجزيرة العربية؛ المحافظات الشرقية، والحجاز، والمحافظات اليمنية (نجران وجيزان وعسير). والمفارقة التي، عادةً، ما يتناساها النقاش العربي، هي الآتية: ما الذي جعل الإمبريالية التي ألحّت على تمزيق مركز القومية والحضارة العربية في بلاد الشام والعراق، في مؤامرة سايكس ــــ بيكو، بينما قدمت الدعم لتوحيد مناطق الجزيرة تحت إمرة آل سعود؟ ألم تكن تلك الصيغة الوحدوية الغاشمة المتحققة بالعنف، سوى الطريقة الملائمة لإخضاع المناطق القابلة للتقدم في الجزيرة العربية، لحكم الرجعية الصحراوية الوهّابية؟
في خواتيم الحرب العالمية الثانية، انتقلت رعاية النظام السعودي، من الإنجليز إلى الامبريالية الأميركية، فتحولت الرياض إلى مركز للتآمر على وحدة المشرق، والوحدة المصرية ــــ السورية، وثورة اليمن، وتجربة ناصر التحررية، إلى درجة تحريض الأميركيين والإسرائيليين على توجيه ضربة لنظامه، العام 1967، وقبلها، وبعدها، الإمساك بمفاصل الحركة الفلسطينية، واخضاعها سياسياً، ومحاربة كل نزوع تحرري وتقدمي ومقاوم في العالم العربي، ودعم الانقلاب الساداتي.
الإنجليز، فالأميركيون، رأوا، في الرجعية السعودية، أداة استراتيجية، لتحقيق أربعة أهداف رئيسية: السيطرة على المركز المعنوي للإسلام وتوظيفه في نشر صيغة رجعية تكفيرية متوافقة مع المنظور الديني العنصري الإسرائيلي، ونهب البترول، ومنع التوجهات الاستقلالية والتنموية في منطقة البترول، واستخدام النظام السعودي وفوائضه المالية في مجابهة حركة التحرر العربية.
موّل آل سعود، واستخدموا، في توافق كامل مع استراتيجية الامبريالية الأميركية، وبرعايتها، الحركات الدينية الرجعية، كالإخوان المسلمين، وشبكات الدعاية للوهابية في العالمين العربي والإسلامي، كما لدى الأقليات المسلمة في العالم، وتمكنت من تحشيد أكبر جيش إرهابي في التاريخ، حتى حينه، للقتال ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، واطلاق منظمة «القاعدة» والحركات السلفية ــــ المقاتلة، واستخدامها حيث يريد الغرب، كما حصل في حرب تفكيك يوغسلافيا.
كان آل سعود، مركز التآمر على الدولة العراقية، في توريطها في حرب طويلة مع إيران، ثم التخلي، مع الكويتيين والخلايجة، عنها بعد الحرب، والتحريض على ضرب العراق، وحصاره، واحتلاله، وتدميره، ولاحقا،ً التسلل إلى مقاومته، وحرفها باتجاه تحوّلها إلى ميليشيات وهابية، وإشعال الحرب المذهبية في بلد طالما كان مجتمعه منسجماً ومتحضراً. آل سعود هم المموّل والمسهّل والصانع لظاهرة القاعدة ــــ داعش في العراق. ومنذ العام 2011، تشن السعودية ــــ وقطر وتركيا والوهابيين في الخليج ــــ حرب إبادة تكفيرية طائفية إرهابية ضد الدولة والمجتمع السوريين، وما تزال ترفض كل إمكانية لتسوية توقف أنهار الدم السوري، وتتحالف مع إسرائيل، ضمناً وعلناً، ضد محور المقاومة، بحجة أولوية التصدي لـ «الخطر الإيراني». القوات السعودية المسماة «درع الخليج» تقمع شعب البحرين المسالم على مدى أربع سنوات، وتقمع أبناء الجزيرة العربية من الشيعة والمتنورين والوطنيين. وفي ذروة من الجنون الحاقد، تشن، منذ ثلاثة أسابيع، حرب إبادة ضد الشعب اليمني لمنعه من التحرر والتقدم. وهي عملية تاريخية من شأنها قلب المعادلات الجيوسياسية للجزيرة العربية.
كفى! قالها الأمين العام، حسن نصرالله؛ بهذه الكلمة، أغلق السيد، أربعين عاماً من الصمت على جرائم آل سعود، وشبكاتهم السياسية والدينية والمالية والإعلامية والإرهابية. وإذا كان هناك من أدعياء اليسار والليبرالية والقومية، مَن هم أسرى تلك الشبكات، فلم يعد مقبولاً من القوى اليسارية والقومية والديموقراطية، أي تردد في تبني المهمة التي طرحها السيد في مكانها وزمانها، لا بوصفه أميناً لحزب الله، بل بوصفه أميناً للمرحلة الجديدة من حركة التحرر الوطني العربية.
وقد قدّم نصرالله، في أوراق اعتماده لموقعه الجديد هذا، بالإضافة إلى تحديده المهمة المركزية للتحرر العربي، ثلاثة أوراق تضعه في صدارة تجمع جبهوي، هي (1) اعترافه بتعددية قوى المقاومة في لبنان (حزب الله، حركة أمل، جبهة المقاومة ــــ القومية الشيوعية)، (2) نشيده البليغ الشجي الجميل العميق غير المسبوق في امتداح العرب وتاريخهم ونسبهم وقبائلهم وشيم العروبة، قبل الاسلام وبعده، خلال امتداحه أهل اليمن، أصل العرب وفرسان الإسلام، (3) شكره القلبي الصادق لصمود سوريا ـــ وهي، للتذكير، قومية وعلمانية ــــ لصمودها في وجه قطعان الإرهاب، وخططها لاجتياح لبنان وذبح اللبنانيين وهدم مساجدهم وكنائسهم.