strong>محمد بدير
اعتمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، منذ الانسحاب من لبنان في 25 أيار 2000 حتى عدوان تموز 2006، في تعاملها مع «الجبهة الشمالية»، سياسة «احتواء»، يمكن وصفه بأنه كان سلبياً، بعدما ترك عناصر المقاومة أحراراً طلقاء، يعززون قوتهم على الحدود، واعتمد اسلوب الاختباء منهم حرصاً على عدم الاشتباك معهم

أعلنت إسرائيل بعد انسحابها من جنوب لبنان عام 2000 أنها ستردّ على كل انتهاك «لسيادتها» بشكل فوري وقاس. كان رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه، إيهود باراك، واضحاً في تحذيره لكل من لبنان وسوريا بأنهما يتحملان مسؤولية أي «اعتداء أو عمل إرهابي» يُشنّ على إسرائيل انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، في حين صرّح رئيس الأركان في تلك الفترة، شاؤول موفاز، بأن استهداف أي جندي أو مدني إسرائيلي بعد الانسحاب سيؤدي إلى استهداف المسؤولين عن ذلك، وهم «سوريا ولبنان وحزب الله».
هذه التصريحات، التي تكررت في عشرات المناسبات، عشية الانسحاب وخلاله وغداته، كانت تهدف إلى تحقيق مفاعيل ردعية إزاء المقاومة في لبنان لثنيها عن مواصلة عملياتها، إلا أنها أيضاً عكست الاستراتيجية الإسرائيلية الأولية لمرحلة ما بعد الا0نسحاب رغم أنها لم تكن قد تبلورت بعد في خطة عملانية واضحة المعالم.
افترض الساسة الإسرائيليون في حينه، وفي مقدمهم باراك، أن خروج جيشهم من لبنان سيسحب بساط الذرائع من تحت سلاح المقاومة، وسيؤدي إلى تقويض شرعية نشاطها العسكري ضد إسرائيل، لبنانياً ودولياً. أما العسكر، فقد عقدوا آمالهم على نظرية افترضت أنه بالإمكان تفعيل رافعات ضغط غير مباشرة على حزب الله يكون من شأنها لجمه ودفعه إلى إعادة النظر في نهجه المقاوم. من أهم هذه الرافعات كان مهاجمة أهداف سورية في لبنان، وكذلك بنى تحتية مدنية كمحطات الطاقة وغيرها.
رغم ذلك، لم تشأ القيادة الإسرائيلية أن تترك شيئاً للصدفة، أو أن تراهن على الجدوى، المفترضة وغير المثبتة بعد، للسياسة الردعية التي تبنّتها قُبالة المقاومة، فعمدت إلى اتخاذ إجراءات ميدانية عكست في الواقع مقاربة ترى أن احتمالات التصعيد على الجبهة اللبنانية هي مسألة وقت ليس إلا. وقد عبر شاوول موفاز، بوصفه رئيساً للأركان آنذاك، عن هذا المنحى خلال نقاش حول الخطط العملانية لقيادة المنطقة الشمالية في الجيش بعد الانسحاب، حيث رأى أن «المهمة الأساسية للجيش، حتى بعد انسحابه من الحزام الأمني، هي تأمين الحماية للبلدات والسكان في الشمال»، وبناءً على ذلك أصدر أوامره بـ«تسريع استكمال التصفيح المطلوب للبلدات ضد مختلف أنواع التهديدات، كالنيران القوسية والمباشرة وعمليات القنص والتسلل».
وهكذا، وانطلاقاً من قناعته الضمنية بأن المقاومة لن تلقي سلاحها بعد الانسحاب، وتالياً ستبقى تشكل تهديداً قائماً على امتداد الجبهة، قام الجيش الإسرائيلي بالتموضع على الخط الحدودي وفقاً لخطة انتشار ترتكز إلى تكتيكات تعنى بمواجهة هذا التحدي. وضمن هذا الإطار، تم بناء سلسلة مواقع جديدة على التلال الحدودية بكلفة 1.2 مليار شيكل (نحو 300 مليون دولار)، إضافة إلى سياج كهربائي على امتداد «الخط الأزرق»، فضلاً عن تعزيز عمليات الرصد على الحافة الحدودية إلكترونياً وبشرياً وتفعيل آلياتِ إنذار صارمة.
بداية عهد الاحتواء
الاختبار الأول لاستراتيجية «الرد الرادع» الإسرائيلية، إن صح التعبير، كان في السابع من تشرين الأول عام 2000، أي بعد نحو خمسة أشهر من الانسحاب. في ذلك اليوم، نفذت المقاومة أولى عملياتها بعد الانسحاب، فأقدمت على أسر ثلاثة جنود إسرائيليين من منطقة مزارع شبعا المحتلة. العملية شكلت، من المنظور الإسرائيلي، انتهاكاً خطيراً للسيادة وضربة قاسية لما يسمى قدرة الردع. رغم ذلك، قررت القيادة الإسرائيلية الرد بشكل موضعي ومحدود في محيط منطقة العملية، مُقرنة ذلك بتهديدات مهولة، تبيّن لاحقاً أنها فارغة، بتدمير بيروت.
وخلال مداولات أمنية حول سبل التعاطي مع العملية، لخص باراك الموقف الإسرائيلي من الحدث بالقول «إننا نحتفظ لأنفسنا بحق الرد في التوقيت الذي نراه مناسباً»، وهي عبارة بقيت من دون أي ترجمة عملية حتى نهاية عهده كرئيس للحكومة ووزير للدفاع في آذار 2001. يمكن القول إن ما سيعرف لاحقا بـ«سياسة الاحتواء» بدأ عند هذه النقطة الزمنية.
فقد أيقظت عملية الأسر الحكومة والجيش الإسرائيليين على واقع أجاد وصفه قائد المنطقة الشمالية السابق، اللواء يوسي بيليد، في تقريره الذي أعده في ختام تحقيق عسكري أجراه حول حادث عملية الأسر. وكتب بيليد، في خلاصة التقرير، «إن الواقع العملاني الذي نشأ منذ إخلاء لبنان وحتى الحادث، والذي ينتشر فيه حزب الله على السياج (الحدودي) ويناور قواتنا، دارساً أنماط سلوكها العملاني، خلق وضعاً لا يمكن احتماله بالنسبة للجيش الإسرائيلي، ونموذجياً بالنسبة لحزب الله. في هذا الواقع، عنصر المبادرة بشأن تنفيذ عمليات محصور بشكل مطلق بيد حزب الله، بحيث لم يعد السؤال ما إذا كان ممكناً منع هذه العمليات، وإنما هل من الممكن التأثير على نتائجها؟».
إلا أن هذه الصحوة الإسرائيلية لم تنتج عودة فعلية إلى استراتيجية «الرد الرادع» التي أعلنتها عند الانسحاب، بل قادت، بالتدريج، نحو اعتماد نظرية عملانية سلبية على الحدود، قوامها تقليل الاحتكاك إلى الحد الأقصى مع عناصر المقاومة بغية تقليص فرص تعرض الجنود لخطر الاستهداف. هكذا، تحولت وظيفة الجيش الإسرائيلي من حماية شمال إسرائيل، انطلاقاً من ردع المقاومة، إلى حماية جنوده على الحدود، انطلاقاً من الارتداع من المقاومة.
تبلورهابيد أن «الرد المخفف» انسحب على العملية التالية للمقاومة، في 12 آذار 2002، حين تمكن مقاومان فلسطينيان من الجهاد الإسلامي من التسلل (بمساعدة حزب الله، وفقاً للرواية الإسرائيلية الرسمية) عبر الحدود في منطقة شلومي، حيث قتلا ستة إسرائيليين، بينهم ضابط في الجيش قبل أن يستشهدا في اشتباك معه. رئيس الحكومة آنذاك، أرييل شارون، أصدر تعليماته بعدم فتح جبهة ثانية. كذلك فعل في أعقاب سلسلة عمليات قامت بها المقاومة، أو اشتباكات حصلت بينها وبين الجيش الإسرائيلي، على امتداد السنوات الأربع المقبلة، قبل دخوله في غيبوبته الحالية مطلع العام الماضي.
من جملة هذه العمليات والاشتباكات، يمكن إحصاء التالي: سقوط صواريخ وقذائف في بلدات إسرائيلية مختلفة في أوقات متقطعة (11-5-2005/ 27-12-2005)؛ مواجهة نارية في موقع الحدب ببلدة عيتا الشعب في 22-7-2004؛ مواجهة نارية في الناقورة في 12-7-2005؛ عملية أسر، لم تتكلل بالنجاح، في بلدة الغجر في 21-11-2005؛ قصف موقع الرقابة الجوية في جبل ميرون من جانب المقاومة، سبقته عملية قنص لجندي في مستوطنة المنارة، وكل ذلك ضمن سياق مواجهة نارية واسعة شهدتها الحدود الجنوبية في ذلك اليوم.
وقد وجد هذا التوجه تعبيره في أكثر من مناسبة تمت خلالها مناقشة تقديرات الوضع أو الخطط العملانية داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وهكذا، ينقل تقرير فينوغراد عن وزير الدفاع في حينه، شاؤول موفاز، قوله، خلال البحث في التقدير الاستخباري السنوي لعام 2004 «علينا الاستمرار في السياسة العاقلة التي انتهجناها حتى الآن، وذلك من أجل لجم المنظومة الشمالية (لبنان وسوريا) وتصديعها، وعلينا أن نستكمل استعداداتنا لمواجهة محتملة، بشكل يسمح لنا بتحييد المنظومة الصاروخية لحزب الله، بنجاعة وسرعة قياسيتين».
وفي آذار 2005، عشية انسحاب القوات السورية من لبنان، قدم القسم السياسي الأمني في وزارة الدفاع الإسرائيلية توصية إلى الحكومة بـ«المحافظة على ضبط النفس على امتداد الحدود الشمالية وإظهار الاستعداد للامتناع، قدر المستطاع، عن إعطاء حزب الله ذريعة لتوليد حالة من عدم الهدوء على هذه الحدود». إلى ذلك، يمكن أن تضاف النظرية التي اشتهرت عن رئيس الأركان السابق، موشيه يعلون، والتي يمكن تسميتها «نظرية الصدأ»، وتقضي بمواجهة الترسانة الصاروخية لحزب الله من خلال سلاح «الصدأ» الذي سيصيبها في مخازنها جراء عدم تمكينه، أو إعطائه الفرصة أو الذريعة، لاستخدامها.
العوامل المؤسسة لها
تعود جذور مصطلح الاحتواء (containment) إلى النقاشات الاستراتيجية التي شهدتها غرف الاجتماعات في وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي الأميركيين إبان فترة الحرب الباردة. ويُقصد به أداء ميداني وسياسي يرمي إلى تقييد مساحة المناورة لدى العدو وتطويق إنجازاته من دون التسبب بتصعيد أو بمواجهة مسلحة واسعة معه.
إسرائيلياً، كُشف النقاب عن هذا المصطلح للمرة الأولى في تقرير فينوغراد الذي أطلقه على السياسة التي انتهجتها إسرائيل على جبهتها اللبنانية في الفترة الممتدة بين الخامس والعشرين من أيار 2000، غداة انسحاب قواتها من معظم الجنوب، والثاني عشر من تموز 2006، عشية شنها العدوان على لبنان.
ويشير التقرير إلى أن هذا المصطلح تكرر مرة بعد أخرى في شهادات المسؤولين السياسيين والعسكريين أمام أعضاء اللجنة، مما يشير إلى أنه كان مستخدماً، أو حتى معتمداً، في المداولات الداخلية التي تناولت الوضع على الحدود الشمالية مع لبنان.
واستناداً إلى تقرير فينوغراد، يمكن إيجاز الأسس التي ارتكزت عليها هذه السياسة بالتالي:
  • الرغبة في الحؤول دون تصعيد قد يؤدي إلى إشعال الجبهة الشمالية في وقت كانت إسرائيل فيه مشغولة إلى أقصى حد بالجبهة الفلسطينية المشتعلة في داخلها. ويصف قائد المنطقة الشمالية السابق، رئيس الأركان الحالي غابي أشكنازي، هذا الوضع في شهادته أمام اللجنة بالعبارة التالية «لقد نزفنا هنا (على الحدود الشمالية) من أجل عدم فتح جبهة إضافية».
  • إدراك الحكومة والجيش الإسرائيليين للثمن الذي قد تدفعه إسرائيل في حال حصول تصعيد على الجبهة الشمالية. وتعزز هذا التخوف في ضوء المعلومات التي كانت موجودة بحوزة الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية عن القدرات الصاروخية لحزب الله، والتي تغطي كل الشمال الإسرائيلي، بما فيه من سكان ومنشآت استراتيجية وحساسة.
  • عقدة «المستنقع اللبناني» التي كانت «معشّشة» في الوعي الإسرائيلي، الرسمي والشعبي، والتي صورت لبنان مكاناً قد يسهل الدخول إليه، لكن يصعب الخروج منه. هذا فضلاً عن أن التجرية الإسرائيلية في لبنان، على «مأساويتها»، لم تتمكن طوال أكثر من 18 عاماً من تحقيق إنجازات يمكن البناء عليها، سياسياً أو ميدانياً. في ظل ذلك، رأى تقدير المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، الذي كان معلوماً لدى المؤسسة السياسية أيضاً، أن أي تصعيد من جانب إسرائيل، حتى لو كان رداً على استفزاز عنيف من جانب حزب الله، سيؤدي على الأرجح إلى سلسلة من الردود والردود المضادة التي ستطال في نهاية المطاف الجبهة الداخلية الإسرائيلية بصليات صاروخية مكثفة، لن يكون ممكناً وقفها أو تقليصها إلا من خلال عملية برية واسعة ستقود إلى معاودة الغرق التدريجي في هذا المستنقع. هذا الهاجس أنتج انكفاءً إسرائيلياً عن ردود قد تؤدي إلى تصعيد.
  • التطورات الداخلية التي شهدتها الساحة اللبنانية، وخصوصاً منذ مطلع عام 2005، وهي تطورات نظرت إليها إسرائيل بعين المراهنة على إنتاج مسارات إيجابية من منظورها، ولا سيما لجهة المواجهة التي يخوضها حزب الله ضد القوى السياسية «المعتدلة» وفقاً للتصنيف الأميركي. وهكذا «مثّل الخروج السوري من لبنان، وتعزز مكانة حكومة (الرئيس فؤاد) السنيورة البراغماتية، والدعم الأميركي والفرنسي لها، إضافة إلى تزايد، ما بدا أنه ضغط دولي على الجهات الراديكالية في لبنان، كجزء من «محور الشر»، كل ذلك كوّن أسباباً جيدة بالنسبة إلى إسرائيل لعدم عرقلة هذه المسارات، وإتاحة نضوجها من دون تدخل إسرائيلي نشط».
    خلاصة
    رغم معارضة جزء من المؤسسة العسكرية منطق الاحتواء، إلا أن الحكومات الإسرائيلية التي تعاقبت منذ الانسحاب من لبنان أجمعت على تبنيها سياسة رسمية على الجبهة الشمالية. قائد المنطقة الشمالية السابق، الجنرال أودي آدم، رأى في شهادته أمام لجنة فينوغراد، أن سياسية الاحتواء «تعني من الناحية العملية تنازلاً عن السيادة الإسرائيلية على الحدود الشمالية وإطلاق يد حزب الله على خط الحدود»، فيما رأى آخرون، من مؤيديها، أنها أتاحت فترة من الهدوء والازدهار لم يعهده شمال إسرائيل منذ عقود.
    بين المؤيدين والمعارضين، خلص تقرير فينوغراد، الذي توقّف مطولاً عند هذه السياسة، إلى أنها، ورغم مزاياها، سمحت عملياً لحزب الله بالتعاظم عسكرياً من دون أي إعاقة من جانب إسرائيل. كما أنها، بحسب التقرير، مكّنته من «العمل في جنوب لبنان وعلى امتداد الحدود بنمط استفزازيّ وعنيف ضد إسرئيل...ثم منحه دمج قدراته الاستراتيجية والتكتيكية تفوقاً وقدرة تحرك فعلية ضد إسرائيل، كما أصبح بحوزة حزب الله زمام المبادرة المستمرة للعمل بالوقت والصورة اللذين يناسبان مصالحه، من دون رد إسرائيلي ومن دون أي إعاقة لتنامي قوته العسكرية. وهكذا تولّد توازن إشكالي جداً بالنسبة إلى دولة إسرائيل على امتداد فترة طويلة».