تونس | "إلى أين تمضي الصحافة المكتوبة في تونس والعالم؟". هذا هو السؤال الجوهري الذي يحاول "الملتقى الدولي لمعهد الصحافة وعلوم الإخبار"، الذي ينظمه بالتعاون مع مؤسسة "كونراد أديناور" الألمانية، على مدى ثلاثة أيام ــ ابتداءً من أمس ــ الإجابة عنه، ساعياً إلى تقديم جوانب المشكلة في مختلف بلدان العالم، وتوفير مجالٍ للنقاش بين الباحثين والخبراء والمختصين، الذين حضروا من بلدان عربية وأجنبية مثل مصر والجزائر والمغرب والإمارات وعمان واليمن وألمانيا وفرنسا وكندا وساحل العاج، وغيرها.
إن مختلف الباحثين والمتخصصين، الذين قدموا أوراق عملهم البحثية ومداخلاتهم بهذا الصدد، أكدوا بشكل يقيني أن "واقع الصحافة المكتوبة يعاني من انصراف الجمهور عنه، ليس فقط على صعيد الدول النامية، بل وحتى على صعيد الدول المتقدمة".

... الأزمة ذاتها
على باب فندق "أفريقيا"، الذي يقع وسط العاصمة التونسية، تجد شخصاً يدلك بأدب على مكان المصعد، لتذهب إلى مكان انعقاد الملتقى، الذي حظي باهتمام صفوة من نخب الباحثين والخبراء في تونس. وكالعادة في مثل هذه الملتقيات الدولية، بدأ بكلمات افتتاحية لمدير "معهد الصحافة وعلوم الإخبار"، الدكتور المنصف العياري، الذي أكد أن هذا المؤتمر يناقش قضية هي في منتهى الأهمية، وهي "مستقبل الصحافة المكتوبة عبر فضاء علمي لطرح الأفكار، وتبادل الرؤى ووجهات النظر، في ظل مجال يتغير باستمرار، ويفرض على الباحثين به تقنيات جديدة لدراسته وتحليله واستشرافه".
أما رئيس المجلس العلمي بالمعهد، الدكتور الصادق الحمامي، فأشار إلى مفارقة غريبة يمر بها واقع الصحافة المكتوبة التونسية، إذ إنها تواجه حالياً ظروفاً صعبة، في ظل محدودية القراء، وتراجع مصادر التمويل، والضعف في توظيف الإمكانات الجديدة، وغياب آليات عمومية لدعمها، رغم أن الإعلام التونسي ــ عموماً ــ يتمتع بحرية غير مسبوقة، خلال هذه الفترة تحديداً، وقد كانت غائبة تماماً خلال حقبة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وما قبلها.
كذلك، كانت الجلسة الأولى تقليدية، بعكس الجلسة الثانية التي تميزت بمداخلات أكثر قوة بكثير، إذ تم في أولى الجلسات عرض بعض أوراق العمل البحثية لعدد من الباحثين، كان أولهم هو المحاضر بجامعة الجزائر، الدكتور نصر الدين العياضي، الذي تحدث عن "أزمة الفوضى وفهم التحولات التي تعيشها الصحافة المكتوبة"، والتي أوضح فيها مختلف جوانب هذه الأزمة، مشيراً إلى أنه برغم معاناة الصحافة المطبوعة عالمياً من أزمة شديدة، إلا أن شكل هذه الأزمة في العالم العربي تختلف عن نظيرتها في البلدان الغربية، بل وحتى في جنوب آسيا وشرقها، وغيرها من المناطق الجغرافية.
أما الأستاذ الجامعي الألماني، الدكتور كريستيان جاكوباتس، فقد كان سيئ الحظ بالفعل، إذ أُجِّلت كلمته في الملتقى مرتين، نظراً إلى مشاكل تقنية تعلقت بالترجمة، لكنه أشار إلى انحدار اهتمام الألمان بالصحافة المكتوبة في ظل الاستخدام المتنامي للهواتف الذكية، الذي جعل من اللجوء إلى الصحافة المكتوبة أمراً عديم الجدوى "إذ لم يعد المتلقي قادراً على الصبر لنصف ساعة لمعرفة المعلومة، التي تأتيه من خلال تصفح الإنترنت عبر هاتفه الذكي".
وتابع كريستيان قائلاً: "في آخر محاضرة لي، بنهاية كل فصلٍ دراسي بالجامعة، كنتُ أسأل طلابي: هل هنالك من قرأ منكم صحيفة في الشهور الأخيرة؟ في الآونة الأخيرة بات من الصعب أن تجد أن أحدهم قد فعلها حقاً. لم يعد الناس بالفعل مهتمين بالصحافة المكتوبة!".

تحديات صعبة
أما الجلسة الثانية والأخيرة لليوم الأول، فكانت ساخنة فعلاً، إذ إنها تحررت من الطابع العلمي الجاف للجلسة السابقة، لتأخذ شكلاً "حوارياً" بين الباحثين والحاضرين للملتقى. وقال رئيس مجلس الإدارة السابق لمؤسسة "الأهرام" بمصر، عمر سامي، إن "الأزمة التي تعاني منها الآن مختلف الصحف في مصر هي انخفاض التوزيع، فالأهرام مثلاً تعاني من انخفاض نسبة التوزيع بنسبة 50%"، مضيفاً: "نحن الآن في مواجهة شرسة مع شبكات التواصل الاجتماعي، حيثُ لم يزد عدد المشتركين المصريين في فيسبوك عام 2010 على 4 ملايين مصري، إلا أنه في هذا العام قد تضاعف إلى 20 مليون شخص. وهؤلاء تخلوا عن متابعة الأخبار، ليس من خلال الصحافة المكتوبة فحسب، بل وحتى عبر الصحافة الإلكترونية، إذ إن الغالبية العظمى منهم توجه إلى شبكات التواصل الاجتماعي كمصادر أساسية لهم للأخبار".
في مداخلته الثانية بالملتقى، التي كانت عن الإعلام الجزائري، قال العياضي إن "التصريحات الرسمية بالجزائر تؤكد أن من بين 169 صحيفة في بلادي، لا توجد سوى أربع منها فقط قابلة للحياة! وهذه الصحف الأربع رفعت أسعار مطبوعاتها، منذ شهور بنسبة 50%، ثم رفعت نسبة أسعار مطبوعاتها مجدداً، منذ شهرين بنسبة 50% أيضاً! كذلك الغريب في الأمر أن هنالك ديوناً هائلة على تلك الصحف، في ما يتعلق بالطباعة".
أما نقيب الصحفيين التونسيين، ناجي البغوري، فقد أكد ضرورة أن تقوم الصحافة المكتوبة بتقديم إنتاج مختلف ليضمن لها "الاستمرار والبقاء"، مكملاً بالقول: "أصبح مطلوباً الآن من الصحيفة أن تقدم إنتاجاً يعيش لأكثر من 24 ساعة، أو يومين أو حتى أسبوعاً، وإلا فما الذي سيدفع المتلقي إلى شراء المحتوى والاطلاع عليه، ومن ثم الاحتفاظ بها؟".
وجاء الدور في هذه المداخلات على رئيس جامعة مديري الصحف في تونس، الطيب الزهار، الذي اعترف بأن "الأغلبية الساحقة من المؤسسات الإعلامية للصحافة المكتوبة في تونس على أبواب الإفلاس، ما يتطلب مراجعة عامة لوضعها"، مضيفاً: "قبل خمس سنوات، كانت الصحف التونسية مجتمعة تبيع 150 ألف نسخة يومياً، أما الآن فقد انخفض هذا الرقم إلى 70 ألف نسخة فقط، ما يوحب علينا اتخاذ خطوات سريعة لإنقاذ هذا القطاع الهام لأنه لا يمكننا بناء الديموقراطية دون صحافة قوية ومستقلة ذات صدقية".
ومن ثم أكمل بالقول: "كما أنني أقر وأعترف ــ متفقاً مع وجهة نظر البغوري ــ بأنه يجب علينا أن نطور أنفسنا كي نقدم مضموناً يعيد الاعتبار إلى الصحافة المكتوبة، والابتعاد عن التركيز على الأشكال الخبرية وحدها، مع إنجاز مواضيع صحافية تضمن للصحافة المكتوبة العودة إلى الصدارة من جديد".
من جهة أخرى، قدم المدير العام لمؤسسة "سيغما كونساي" للدراسات واستطلاعات الرأي في تونس، حسن الزرقوني، العديد من الإحصائيات المرتبطة بتراجع واقع الصحافة المكتوبة، إذ إن 18,8% من التونسيين لا يقرأون ولا يكتبون، وبالتالي هم ليسوا زبائن للصحف، وهذا رقم كبير فعلاً. كذلك إن النموذج الاقتصادي للصحافة المكتوبة قائم على الإعلانات، ففي عام 2005، وصلت مداخيل الإعلانات بالصحافة المكتوبة التونسية إلى 30 مليون دينار تونسي، أي ما يوازي 15 مليون دولار، وفي خلال عشر سنوات انخفضت هذه المداخيل بنسبة 33%.
أما بخصوص مشكلة الإعانات الرسمية للصحافة المكتوبة، قال الزرقوني إنّ المشكلة أنّ من يتمتع بالإعانات هم "الكبار" (أي "المؤسسات الكبيرة")، لأن لديها الإمكانات التي تسمح بالحصول على الإعانات، وأوضح أنّ أكبر مثال على ذلك في فرنسا، فقد حصلت صحيفة "لوموند" على 18 مليون يورو من الإعانات "لأنها استطاعت تقديم ملف قوي سمح لها بالحصول على دعم رسمي من الدولة".
قاطعه ساعتها الزهار بقوله: "معذرة أخي حسن: لا يوجد هنالك كبار وصغار في الصحافة المكتوبة بتونس. إن العديد من المؤسسات الصحفية على وشك الإفلاس. بل إنني أجزم بأنه لا توجد مؤسسة تعمل في مجال الصحافة المكتوبة قادرة على الصمود للسنوات الخمس المقبلة!".
ومن ساحل العاج، تحدث الأستاذ الجامعي، كوني تايرو، عن عزوف المواطنين بدولته، مبرراً ذلك بالقول إن "الناس ينظرون للصحافة المكتوبة هناك على أنها مسؤولة عن حدوث الشروخ والشقاق في مجتمعنا، في ظل الأزمات السابقة التي أصابته. وهو ما يفسر تراجع توزيع الصحف بدرجة كبيرة عندنا، حيثُ لم تتميز بالنزاهة في تناولها للقضايا السياسية المحلية، وحتى تسترجع الثقة لدى القراء ينبغي مراجعة الخط التحريري لديها".
أما المداخلة الأخيرة، فكانت للأكاديمي الألماني جاكوباتس، الذي كان عاثر الحظ أيضاً مع الترجمة، ليتمكن أخيراً من تقديم وجهة نظره، التي جاءت في ختام الجلسة: "تحدث البعض هنا عن إمكانية دعم الصحافة المكتوبة من قبل الدولة كحل لأزمتها الحالية. أنا أخشى من أن الدعم الحكومي قد يجعل الصحافة المكتوبة في خدمة الدولة على حساب الجمهور. ثانياً: إنني أرى أن زوال الصحافة المكتوبة ليس بالأمر الخطير، فإذا نظرنا للأمور، من قراءة تاريخية، فإننا سنجد أن المعلومة قد انتقلت من كتابتها على الحجر، إلى حفظها الآن على أجهزة الحاسوب، فما المانع من غياب الورق، لنقرأ المعلومة بشكلٍ إلكتروني؟".