حيفا- فراس خطيب
كشفت صحيفة «يديعوت أحرونوت»، في ملحقها الاسبوعي أمس، عن ملف المفاوضات الاسرائيلية ــ السورية، التي بدأت في عام 1994. وأشارت إلى أنَّه في عام 1995، كتب رئيس الحكومة الاسرائيلية في حينه اسحق رابين، بمشاركة قادة الجيش الاسرائيلي، 15 وثيقة سرية تلخّص الموقف الإسرائيلي خلال المفاوضات الإسرائيلية ــ السورية، التي أجريت في واشنطن. وسمي الملف، الذي يحتوي هذه الوثائق، بـ «الملف الرمادي».
وعرضت «يديعوت أحرونوت» ملخص الـ 13 عاماً من المفاوضات الإسرائيلية ــ السورية، التي مرّت بمراحل عديدة كانت قمتها حين أكّد رابين أنَّه «سيتوصل إلى اتفاق سلام مع السوريين في فترة ولايته الثانية رئيساً للوزراء». وقتل في اليوم نفسه، حسبما جاء في الصحيفة نقلاً عن مقرب منه.
بدأت رحلة المفاوضات في التاسع والعشرين من تموز 1994، عندما أقامت واشنطن في حينه ما يسمى بـ «قناة السفراء». وهي عبارة عن «مسار مفاوضات سوري ــ إسرائيلي، بينهما وساطة أميركية».
كانت «قناة السفراء» تجمع بداية بين بروفيسور ايتمار رافينوفيتش، الذي شغل منصب السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة، وبين وليد المعلم، الذي شغل هو أيضاً منصب السفير السوري في العاصمة الأميركية. وأشارت الصحيفة إلى أنَّ هذا المسار «قاد في نهاية المطاف إلى لقاءات بين مسؤولين عسكريين إسرائيليين وسوريين أيضاً»، مبينة أنَّ القمة كانت ضمن لقاء «عقد في 21 كانون الأول من عام 1994، جمع قائد هيئة الأركان الإسرائيلي إيهود باراك، ورئيس هيئة الأركان في الجيش السوري (حكمت) الشهابي».
في ذلك الحين، أمر قائد الاركان باراك والسكرتير العسكري لرابين، داني ياتوم، بالسفر إلى الولايات المتحدة للقاء السوريين. شدّد رابين على أن يكون هذا السفر سرياً «من دون علم أحد». سافر الإثنان إلى الولايات المتحدة عن طريق أوروبا وكندا، وهما يحملان جوازي سفر مزوّرين، ويضع كل واحد منهما شعراً مستعاراً وشاربين. كان القصد من هذا التخفي هو «بقاء زيارتهما لأميركا سرية للغاية»، لأن رابين أراد تجنّب مواجهات مع المعارضة الاسرائيلية التي كانت برئاسة بنيامين نتنياهو.
تحدث باراك اثناء الجلسة مع السوريين عن ضرورة «نزع السلاح من مناطق عديدة داخل سوريا في مقابل انسحاب اسرائيلي من هضبة الجولان. وكان الاقتراح الاسرائيلي، حسب داني ياتوم، المشارك في الجلسة، ابقاء لواء جيش بين دمشق وهرمة، وآخر داخل دمشق تحمي النظام.
عقد اللقاء بين قادة الجيش داخل إحدى الغرف في البيت الأبيض بحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون، الذي بارك اللقاء، مبيناً أنَّ «اللقاء بين قادة الجيش سيثبت نفسه».
في البداية، وبعد عرض النيات الاسرائيلية، اعتقد الإسرائيليون بأنَّ «القضية ستسير على ما يرام»، لكنَّ الصحيفة أشارت إلى أنَّ السوريين «سرّبوا للإعلام العربي أنباء عن المفاوضات قالت إنَّ العلامات الأولى من المفاوضات غير مطمئنة». وبيّنت الصحيفة أنَّ الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد «لم يكن مستعداً لأن يحدّد له الإسرائيليون مواقع جنوده».
في خضم هذا النقاش، حدثت في إسرائيل عملية استشهادية نفّذها «الجهاد الاسلامي» في منطقة بيت ليد، قتل خلالها 23 اسرائيلياً. وقال الإسرائيليون حينها إنَّ التخطيط للعملية تمّ في دمشق وتحديداً على يد فتحي الشقاقي. كانت هذه العملية كافية لإيقاف ما كان. لكنَّ النهاية لم تأت بعد العملية.
ألغى الأسد في حينه كل اللقاءات المخططة بين قادة الجيش الاسرائيلي والسوري وعبّر عن «خيبة أمله من أنَّ ثلاث سنوات مرت على قراره الاستراتيجي للتوصل إلى سلام مع الاسرائيليين»، مشيراً إلى أنَّه «في تلك الفترة كان الاسرائيليون هم من قطف الثمار فقط».
لكنَّ الأسد الأب كان دبلوماسياً بالمقابل، «ولم يكسر القوالب كلها مع الولايات المتحدة»، حيث حافظ على العلاقات ووافق على أنْ يستمر الأميركيون بالحفاظ الوساطة عن طريق دنيس روس ومارتن انديك، اللذين تنقلا بين دمشق وإسرائيل. وتشير الصحيفة إلى أنَّ هذه الاتصالات التي قادها الأميركيون «أثمرت» في النهاية وأدّت إلى صياغة «ورقة تفاهمات» بين رافينوفيتش والمعلم. وما زال السوريون يعتبرون هذه الورقة حتى يومنا هذا «أساساً لمفاوضات السلام مع إسرائيل».
وأشارت الصحيفة أيضاً إلى أنَّ ورقة التفاهمات شقت طريقاً اخرى لاستمرار التفاوض ووصلت نسختان عنها إلى الأسد ورابين من أجل التوقيع عليهما. في ذلك الحين، بدأت الامور «تأخذ حيزاً إيجابياً من أجل استيعاب لقاءٍ آخر يجمع رجال الجيش من الإسرائيليين والسوريين». عندها، سافر رئيس هيئة الاركان الاسرائيلي امنون ليفكين ــ شاحك إلى الولايات المتحدة برفقة داني ياتوم.
قام الإسرائيليون عشية سفر ياتوم وشاحك إلى «تحضير انفسهم جيداً للمفاوضات واللقاءات». ويشير مدير معهد الدراسات الاستراتيجية الاسرائيلية إلى أن الاسرائيليين «كانوا يحضرون أكواماً من الوثائق والأوراق لعرضها هناك، وفي المقابل كان الشهابي في طريقه إلى المفاوضات حاملاً ورقة بيضاء صغيرة كتب عليها بالعربية بخط يده».
وعمل الإسرائيليون عشية السفر أيضاً على «تحليل شخصية الشهابي قبل التفاوض معه بناءً على معلومات جمعها الاسرائيليون على مدار 20 عاماً سبقت المفاوضات». وأشارت نتائج التحليل إلى أنَّ الشهابي يتمتع بشخصية «براغماتية ويؤيد الغرب إلى حدّ ما».
في الارتكاز على ورقة التفاهمات بين السوريين والاسرائيليين، عمل شطاوبر (مدير معهد الدراسات الاستراتيجية) ونائبه شلومو بروم على الاستمرار في بناء برنامج عمل للمفاوضات مع السوريين بمشاركة اطراف من الجيشين السوري والاسرائيلي. استطاع الاثنان أن يحضرا 15 وثيقة داخل ملف واحد اسمه «الملف الرمادي»، وبُعث هذا الملف تحت رقابة أمنية كبيرة إلى الولايات المتحدة. اشتملت هذه الوثائق على خرائط لنشر القوات الاسرائيلية عند الحدود السورية ــ الاسرائيلية اضافة الى آليات لعمل الاستخبارات. ويذكر أنَّ إحدى هذه الوثائق، وكانت تحت عنوان «اعلان اسس الترتيبات الامنية للسوريين»، وعلى الرغم من السرية التامة التي كانت هناك، تمَّ تسريبها إلى رئيس المعارضة الاسرائيلية في حينه بنيامين نتنياهو، الذي ألقى خطاباً في الكنيست قال فيه إنه يملك مستنداً يثبت أن حكومة رابين ستقدم «تنازلات للسوريين». ولكنّ هذا التسريب لم يمنع بحثه مع السوريين. وقد بحثه الاسرائيليون في حضور الكثير من جنرالات الجيش.
في 26 حزيران من عام 1995، وصل السوريون إلى واشنطن، حسب الصحيفة، بتركيبة أكبر يرأسها الجنرال الشهابي اشتملت على جنرالات من الاستخبارات السورية. ووصف الاسرائيليون قوة شخصية الشهابي الذي «بدا مسيطراً على الوفد». افتتح اللقاء وزير الخارجية الاميركي وورن كريستوفر الذي طالب الجانبين بإبداء انفتاح ما. عندها عرض الشهابي الرؤية السورية التي وصفها الاسرائيليون بأنَّها «صارمة» وتضمنت نزع السلاح من مناطق محدودة عند الحدود السورية (قليلة جداً بالنسبة إلى ما طالبت به اسرائيل)، مقترحاً نشر قوات دولية على طرفي الحدود وداخل المناطق منزوعة السلاح، مبيناً أنَّ وسائل الرقابة على الحدود تكون عن طريق البالونات والكاشفات وهذا لا يشمل اختراقات الحدود من ناحية الاسرائيليين او السوريين.
الاسرائيليون لم يرضوا باقتراح، اقترحوا أن كل ثكنة عسكرية اسرائيلية يتم اخلاؤها تنزع السلاح من المنطقة كي لا يستغل السوريون الانسحاب الاسرائيلي لتقوية مواقع الجيش السوري.
الاسرائيليون شددوا على «مركزية جبل الشيخ» مشيرين إلى أنَّهم يريدون أن يراقبوا عن طريق «وجود المساحات نفسها لا عن طريق الأجهزة».
لم تعجب المطالب الاسرائيلية الجنرال الشهابي الذي كشف عن «اربع نقاط» في حديث الاسرائيليين، مبيّناً أنَّهم يريدون البقاء في جبل الشيخ ومصممون على توسيع المناطق منزوعة السلاح، ويتدخلون في المبنى العسكري السوري.
في ظل هذا التوتر، اقترح ليفكين شاحك ما هو جديد: مقابل احتفاظ اسرائيل بموقعها الاستخباري المتطور عند جبل الشيخ، يمنح الاسرائيليون موقع رقابة للسوريين عند جبل في الجليل. معتمداً في اقتراحه على احدى الوثائق في «الملف الرمادي». كانت هذه الوثيقة تتحدث عن منح السوريين موقعاً على قمم احد جبال الجليل ومن الممكن ان يكون «جبل كنعان».
وأشارت الوثيقة الاسرائيلية السرية إلى أن الاسرائيليين في هذه الخطوة، وبمساعدة اساليب تكنولوجية متطورة يستطيعون مراقبة ما يجري في النقطة السورية ومتابعة القدرات السورية. تضمنت الوثيقة تفصيلات للغاية حول ما سيجري في النقطتين الاسرائيليتين.
انتهى اليوم الاول من المفاوضات. دعا دينس روس الجانبين إلى وجبة عشاء، إلا أنَّ الشهابي رفض هذا. فكر الاسرائيليون.. ومن اجل «تصفية الاجواء» باستدعاء الطيار الاسرائيلي بيني نحماني الذي اسر على يد السوريين في عام 1973. وكان الشهابي هو المسؤول عن التحقيق مع نحماني، لكن هذا الاقتراح رفضه نحماني خوفًا من أن يعتقد شهابي بأن الاسرائيليين يريدون استفزازه.
في اليوم الثاني للمفاوضات كانت القضايا أسهل. الجميع تحدث عن قضايا عملية. لكن الاسرائيليين رفضوا التنازل عن موقعهم في جبل الشيخ. وقال للشهابي: «لماذا تصممون على ابقاء هذه القوات على الرغم من انكم تملكون حدوداً مع خمس دول مختلفة؟».
عاد الوفد الاسرائيلي إلى اسرائيل وألّف لجان تحقيق داخلية لمعرفة من سرب الوثيقة لنتنياهو، لكنهم كانوا راضين عما جرى في الولايات المتحدة. غير أن الصحيفة قالت إن الاسرائيليين «اخطأوا بهذا الشعور لأنّ السوريين لم يكونوا راضين عن المفاوضات في الولايات المتحدة».
وقال احد المشاركين في الوفد: «اعتقدنا أن السوريين يريدون التنازل الى حل وسط ولن يصمموا على انسحابنا حتى حدود الرابع من حزيران، لكننا اخطأنا لأن السوريين لم يكونوا مستعدين للتنازل عن شيء».
وقالت الصحيفة: لكن مع الوقت تحسنت الأمور لأن «الاسد غيّر اتجاهه» مبيّنة أن دينيس روس ومارتن انديك اجتمعا برابين في عام 1995. رابين طلب من سكرتيره العسكري ياتوم أن ينضم. جلس الاربعة وقال له الاثنان إن «الاسد معني بتجديد المفاوضات والاتفاق». فوجئ الاسرائيليون لأن الاستخبارات الاسرائيلية لم تبلّغ المستوى السياسي أن السوريين «يغيرون اتجاههم» وردّ عليهم رابين بأنه لا يستطيع الآن طرح القضية على الاسرائيليين لأنه مشغول بتمرير الموازنة لعام 1996. مبيّناً أنه «معني بتجديد المفاوضات والاتفاق، لكن البرنامج السياسي لا يسمح». وأبلغ رابين الاميركيين أن يقولوا للاسد إنه «مستعد للاتفاق معه». وقال رافينوفيتش انه تحدث الى رابين في الرابع من تشرين الثاني وقال له رابين إنه من الممكن ان يتوصل معه السوريين إلى ااتفاق سلام في الفترة الانتخابية القادمة. لكنه قتل على يد ايغال عمير في اليوم نفسه.