دمشق | يبتكر اللحامون أساليب جديدة في ظلّ الأوضاع الاقتصادية المتردية، مستفيدين من الظروف السائدة في البلاد، ليكون المواطن، في سوق اللحوم، ضحية السعر الفاحش، والجودة المتدنية، ومخالفة المواصفات. «ألا يكفينا غلاءها، حتى يقوم اللحامون بغشها، دون اكتراث بصحة البشر؟ هؤلاء ناس بلا ضمير، ولا يخافون الله»، تقول سهى محمد، السيدة الخمسينية، وهي تتسوق حاجاتها، في سوق باب سريجة في دمشق.
بينما تؤكد أم محمد، حسبما عرفت عن نفسها، أن عائلتها «لم تأكل اللحمة منذ مدّة، بسبب ارتفاع الأسعار»، وحين قررت الشراء، عرفت، نتيجة السعر، أن اللحمة مغشوشة، لكنها لا ترى ضيراً في ذلك، «طالما ليست فاسدة»، فالمهم أن يأكل أولادها «اللحمة».
أمّا الموظف سليم حسن، فيبيّن أن «الفقراء باتوا يضربون أخماساً بأسداس عند التفكير بشراء اللحمة. ومع أن المستهلك ليس غبياً، ويفرق بين اللحوم السليمة والمخالفة، إنما ذلك لا يحول دون وقوعه ضحية جشع اللحامين». وهنا تؤكد، المواطنة وفاء عطية، تعرضها للغشّ مرّات عديدة، دون اللجوء إلى الرقابة للشكوى «لعدم فعاليتها». وتضيف إن «الشراء من لحّام الحارة يبقى الأفضل، فالأسواق الشعبية قد توفر بعض المال، لكنها قد تتسبب بخسارة اللحمة كلها، أو تعرّض حياة أفراد الأسرة للخطر».

مخالفات عالمكشوف

تتحدث فوضى أسواق اللحوم عن نفسها، لكن اللحامين يتقصدون السباحة عكس التيار، لحماية مصالحهم، مع وجود قلة ترفض ممارسات «أهل الكار»، فاللحام مأمون طويلة يشير إلى أنّ بيع إناث «العواس» على أنها لحم عجل، من أكثر أنواع الغش تداولاً، وهذا ليس فيه ضرر للمستهلك، الذي يستفيد من خفض السعر قرابة 500 ليرة. ويدافع اللحام أبو أمجد عن ذلك بالقول: «ذبح إناث العواس حلال، ويبقى أفضل من تصديرها، في ظلّ عجزها عن الإنجاب. كما أن ذبحها يصبّ في خدمة المواطن، كونها تباع بسعر أقل».
اللحام سعيد عبسة يرفض وجهات النظر تلك، بتأكيده أن «معظم محال اللحوم في باب سريجة مخالفة. يقومون بخلط لحم الجاموس مع أنواع أخرى، وبيع إناث العواس التي تذبح في ساعات الصباح الأولى، مع مهرها بختم مزور يصنعه اللحامون بأنفسهم»، ليؤكد ضرورة وجود أطباء بيطريين، على مدار اليوم، ولا سيما أن مديرية الشؤون الصحية لديها 7 أطباء، يمارسون عملهم ضمن مكاتب وزارة الصحة، فيما «دوريات التموين لا يهمها ضبط المخالفات، طالما ثمنها مدفوع، إذ يتم التغاضي عن المخالفة بمجرد إعطاء المراقب 500 ليرة». يتفق معه، في ذلك، محمد بسام درويش، رئيس جمعية اللحامين في دمشق، سابقاً، وعضو اللجنة الإعلامية في جمعية حماية المستهلك، ويقول: «معظم المحلات تبيع لحم جاموس، بعد ارتفاع أسعار اللحوم الطازجة إلى حدود 3000 ليرة، بحيث يضيف اللحام 800 غرام منه، مع 200 غرام دجاج، أو شرحات ليّة، ليبقى اللون قريباً من لون لحم العجل». وتقوم بعض المحال بفكّ تجميد لحم الجاموس، وعرضه ضمن برادات الواجهة، على أنه فخذ عجل، أو خروف طازج لإغراء المستهلك، «ويبقى الأخطر هو بيع اللحم المفروم، المؤلف من دهن بقر، وعروق دم وصباغ، لتأثيره على صحة المستهلك، علماً بأن طالبي اللحوم، عبر الهاتف، هم الأكثر عرضة للغش».
تبرز مخالفات اللحوم جلية في سوقي باب سريجة والثورة، القريبين من مديرية تموين دمشق، بشكل يطرح إشارات استفهام حول جدية الرقابة بضبطها، إذ يؤكد رئيس اتحاد حرفيي دمشق مروان دباس، لـ«الأخبار» أنّ «الغشّ استفحل، إلى درجة بات فيها اللحام جرّاحاً، بعد تحويله أنثى العواس إلى ذكر، دون التمكّن من كشف مخالفاته التي يجب مكافحتها، وخاصة لناحية اللحوم المفرومة، المخزنة بكميات كبيرة». ويضيف إن «لحامي البسطات يشكلون عصابة تبيع اللحم الفاسد، والدوريات غير قادرة على ضبطهم، لسرعة تغيير أماكنهم، ليكون الفقراء هم الضحية، لاضطرارهم إلى شرائها». ويوضح أن باب سريجة تعد سوق الغش الأول، بحيث تجاوزت نسبة مخالفاتها الـ 90%، وخاصة لجهة خلط لحم إناث العواس والماعز، ويزيد الوضع سوءاً لحم الجاموس الذي تستخدمه غالبية المطاعم، بينما يخصّص لحم الخروف للزينة فقط. وهنا يدافع محمد بسام درويش عن لحم الجاموس بقوله: «كان يدخل البلاد تهريباً، واليوم يستورد بطرق نظامية، عبر لجان مشتركة، من وزارات متعددة، لكن مشكلته تكمن بخلطه مع لحوم أخرى».
أمام هذا الواقع، تصرّ الرقابة التموينية على أن اللحوم المطروحة في السوق المحلية سليمة، والمخالفات يتمّ ضبطها، إن وجدت. وبحسب معاون مدير التجارة الداخلية في دمشق، محمود الخطيب، فليس هناك «لحوم مخالفة أو فاسدة، فالدوريات تسحب عينات، وعند التحليل تكون النتائج مطابقة، مع وجود مخالفات سببها جراثيم هوائية أو كلوروفورم»، ليقرّ بحصول مخالفات كبيرة في الهمبرغر والنقانق «لعدم النظافة»، إضافة إلى عمليات الغش، كبيع لحم البقر والجاموس على أنه لحم عجل، بينما يفترض الإعلان عن نوع اللحوم. أما الفروح «فمخالفاته جرثومية، علماً بأن الدوريات تتابع الفروج المتدني السعر للتأكد من صلاحيته». بدوره، رئيس جمعية اللحامين في دمشق، ادمون قطيش، يقفز فوق الواقع عبر رفضه وجود لحوم مخالفة غير صالحة للاستهلاك، فالغش يقتصر، برأيه، على «خلط اللحوم لزيادة الربح. وعموماً، المخالفون لا تتجاوز نسبتهم 5% فقط»، مؤكداً عدم قدرة الجمعية على مرافقة الرقابة التموينية يومياً، بحكم أشغالها، «فالجمعية فخرية ونحن لسنا موظفين»، مطالباً بحلّ مشاكل نقل اللحوم، وخاصة من قبل الجمارك التي تظنّها معدّة للتهريب إلى لبنان، ما يضطر اللحامين إلى دفع الأتاوات، التي تنعكس على المواطن.

مسالخ مخالفة

عمليات الذبح العشوائية خارج المسالخ النظامية تعدّ سبباً أساسياً لانتشار اللحوم المخالفة، ففي سوق باب سريجة، وحدها، يذبح حوالى 400 خروف يومياً، وهذا يترك أضراراً كبيرة، وخطيرة، سواء على شبكة الصرف الصحي، أو انتشار القوارض، حسب ما يؤكد الدباس، الذي يشدّد، أيضاً، على «ضرورة معالجة هذا الواقع، ولا سيما في ظل وجود سيارات مبردة لنقل اللحوم، ومسالخ نظامية. لكن اللحامين لا يقصدونها، كون معظم الذبائح مخالفة، فأين الرقابة؟!». وفي السياق نفسه، يرى رئيس جمعية اللحامين السابق في دمشق أن إنشاء المسلخ الفني في منطقة الزبلطاني، المتوترة أمنياً، أمر خاطئ، مطالباً بإيجاد مسالخ بديلة، وخاصة في منطقة عدرا الصناعية ونَجْهَا. وهنا يبين، الخطيب، مخالفة من يذبح إناث العواس، التي تتم بمسالخ خاصة، «مؤخّراً تمّ ضبط 32 ذبيحة، هي إناث نعاج، و10 أخرى حيّة، بباب مصلى، سلّمت للمسلخ الفني، وفق الأصول».