يحيى دبوق
يرى الإسرائيليون في استقالة المندوب الأميركي لدى الأمم المتحدة جون بولتون خسارة شخصية. كيف لا وهو الذي وصف في السابق بأنه العضو السري في البعثة الإسرائيلية لدى المنظمة الدولية. كما يعدّه الإسرائيليون «السوط» الأميركي المؤيد لهم، لذا فهم يترقبون بقلق خليفته، وباتوا يدققون في ميول المرشحين لخلافته، وإلى الآن لا تبدو الخسارة كبيرة.

تميّزت علاقات إسرائيل بالأمم المتحدة، والمؤسسات الدولية عموماً، بكثير من الشك والنفور، بل درج التعريف الاسرائيلي لهذه المنظمة ومؤسساتها كمنبر معاد للدولة العبرية وبيئة خطرة يجري استغلالها لإصدار بيانات الادانة والشجب لتل أبيب.
لكن مع سقوط الاتحاد السوفياتي، والتحوّل العالمي باتجاه القطب الواحد، تحوّلت الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي إلى نظام فرعي ايجابي او محايد، لكنه غير سلبي بالتأكيد، للقدرة الاميركية، التي تنحو منحى افرادياً نحو التسلط والهيمنة الدولية، وبالتالي فقدت المنظمة الدولية دورها في التأثير في عملية صنع القرارات الدولية العملية.
ولأن الامم المتحدة ساحة تعكس موازين القوى الدولية، وبوجود إدارة أميركية كإدارة الرئيس جورج بوش، التي ترى في إسرائيل بعداً عقائدياً مسيحياً يجب المحافظة عليها والدفاع عنها، كان تعيين جون بولتون مندوباً للولايات المتحدة في مجلس الامن.
وبولتون، كما تشهد اسرائيل وأعماله ايضاً، أدى دور المحامي والمدافع عن اسرائيل وعن مصالحها بكل شجاعة واقدام. وغيابه اليوم عن مجلس الامن، يفرض على إسرائيل دراسة البدائل الأميركية المطروحة لإشغال المنصب، فرغم كونه منصباً فرعياً وتنفيذياً، تقريرياً، لكنه يساهم بالتأكيد في ايجاد بيئة مناسبة وأكثر راحة لاسرائيل في اكثر من بعد واتجاه، وخصوصاً أنه يؤدي دوراً فاعلاً في نقل موازين القوى واتجاهاتها السائدة في مجلس الامن إلى الادارة الاميركية. كما يؤدي دوراً مؤثراً في طرح الخيارات والبدائل الاميركية لمواجهتها، بما يخدم إسرائيل أو يضرها.
وتناول موقع «أوميديا» الإسرائيلي، المتخصص في الشؤون السياسية والامنية الاستراتيجية، استقالة بولتون والبدائل المطروحة من وجهة نظر اسرائيلية، وكان لهيئة تحرير الموقع اسهام تحت عنوان «كان الى جانبنا»، جاء على النحو الآتي:
مورست ضغوط على جون بولتون، وأجبر على تقديم استقالته أخيراً، وهي ضغوط متأتية من الثورة الحالية التي تضرب الادارة الاميركية. وبالتالي، فقدت تل ابيب فارساً مؤيداً لإسرائيل، كان قد دافع عنها بكل شجاعة وإقدام، ضد نفاق الامم المتحدة.
لقد كان جون بولتون، طوال فترة تولّيه منصب المندوب الأميركي لدى الامم المتحدة، ثابتاً وحاداً في العمل لمصلحة إسرائيل. وكان ايضاً، مصراً على مكافحة الامراض المزمنة التي تعانيها المنظمة الدولية. انه احد السفراء النادرين في تاريخ هذه المؤسسة الدولية ممن رأوا ضرورة إجراء تحقيقات في أدائها.
ومن المحتمل ان تؤثر مغادرة بولتون سلباً على إسرائيل، وأن تضر بموقعها الدبلوماسي على الصعيد الدولي. لذا، من المناسب ان نجلس ونحلل من وجهة النظر الإسرائيلية، الفترة التي قضاها بولتون في الامم المتحدة. ومن المناسب أيضاً، أن نعمل على معرفة توجهات الشخصيات الاميركية المرشحة للحلول مكانه وميولها.
بالطبع، لم تُثر استقالة بولتون أي مفاجأة، لأنها تأتي في سياق طبيعي لما يحدث للمستويات الرفيعة في الولايات المتحدة؛ فبعدما انتصر الديموقراطيون أخيراً في انتخابات مجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين، بدأت سلسلة من التغييرات تطاول كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية. وكان وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، الصديق الثابت لإسرائيل، أول من غادر هذه الإدارة واستبدل بوزير الدفاع الجديد روبرت غيتس، الذي لا يشتهر عنه ود لإسرائيل.
كان غيتس قد قال قبل تعيينه على رأس وزارة الدفاع في إحدى جلسات الكونغرس، ان الولايات المتحدة لم تنو حماية إسرائيل من هجوم نووي إيراني، بل قال أيضاً من خلال «زلة لسان»: إن لدى إسرائيل قنابلها النووية الخاصة بها.
كان جون بولتون الشخصية الثانية، التي غادرت الإدارة الاميركية، والذي لم يحظ تعيينه مندوباً للولايات المتحدة، بمصادقة مجلس الشيوخ الأميركي، وبالتالي كان يشغل المنصب مؤقتاً.
رُفض طلب المصادقة على تعيينه في أيار 2005، أي قبل سبعة عشر شهراً. ويعود رفض التعيين الرسمي إلى الاعتراض الذي تمسّك به السيناتور الجمهوري لينكولن شافي، الذي يُصنفه اليهود الأميركيون معادياً لإسرائيل. وقد علّل شافي قراره بأنه لا «يدعم شخصاً رفضه الشعب الأميركي».
في الاشهر السبعة عشر التي شغل خلالها المنصب، اثبت بولتون انه احد أهم الاصدقاء الذين يمكن أن تحصل عليهم إسرائيل في الأمم المتحدة وأقواهم.
خسارة كبيرة
لم يصادق مجلس الشيوخ الأميركي على تعيين بولتون مندوباً للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، رغم وجود غالبية للحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ. ومن بين الأسباب المسوقة لذلك، الخشية من أن تتضرر صورة الولايات المتحدة في العالم وفي أروقة الأمم المتحدة. فالعالم الذي جاء منه بولتون يؤمن بضرورة العمل على الحد من التسلح، لكن من دون الاتكال على المعاهدات الدولية المستندة إلى الدبلوماسية أو إلى اتفاق «جنتلمان» بين الدول.
لقد أراد بولتون ان يمنع انتشار الأسلحة غير التقليدية من خلال إجراءات عدوانية، سواء تشريعياً أو عسكرياً. ويمكن القول إن بولتون لم يكن بارعاً أو معتمداً على اللياقة الدبلوماسية، إنه شخص يرتاب ويشك في المؤسسات الدولية، وخصوصاً هيئة الأمم المتحدة.
وللتذكير، يُشتهر عنه تعليق متهكم يتعلق مباشرة بالامم المتحدة، رأى فيه أن اختفاء عشر طبقات من مبنى المنظمة الدولية، والمؤلف من ثمان وثلاثين طبقة في نيويورك، لن يحدث تأثيراً. وكان قد اقترح أيضا في الماضي، تأسيس هيئة دولية برئاسة أميركية، بديلاً من الأمم المتحدة.
وأطلق بولتون، خلال فترة توليه المنصب، مواقف ووجهات نظر مضادة للامم المتحدة، من خلال خطاباته وتصريحاته، ومن ضمنها خطابات ألقاها من على منصة المنظمة الدولية نفسها. لقد خرج ضد قضية الرشى المتعلقة بمشروع النفط مقابل الغذاء في العراق، وقاتل كي تبقى هذه القضية موجودة وحيّة على جدول اعمال الأمم المتحدة.
ويسجل له أيضاً نجاحه في خفض قيمة العطاء المالي المقدم لموظفي الأمم المتحدة، والذي يصنف هديةً، من 10 آلاف دولار إلى 200 دولار. والأكثر اهمية من كل ذلك، أنه تزعّم مبادرة لتنفيذ إصلاحات في تركيب الأمم المتحدة، وخصوصاً في ما يتعلق بعضوية مجلس الأمن، من اجل تحويله إلى مؤسسة قوية، وهي مبادرة اصلاحية يبدو أن الامين العام الجديد للمنظمة الدولية، الكوري الجنوبي بان كي ــ مون، قد ساهم فيها أيضاً.
إضافة إلى ذلك، أطلق بولتون سلسلة من الانتقادات ضد مجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة، المدافع عن أنشطة انظمة الشر والضالعين في الإرهاب باسم حقوق الانسان.
في السياق الإسرائيلي، من المهم ان نذكر أن بولتون ساهم خلال الولاية الأولى للرئيس جورج بوش، ولدى عمله في مكتب شؤون المنظمة الدولية، التي تعمل إلى جانب الأمم المتحدة، في المصادقة على قرار دولي ألغى قراراً سابقاً صدر في عام 1991، ساوى بين الصهيونية والتمييز العنصري.
وقام بولتون، إضافة إلى ذلك، وبدعم من بوش في واشنطن، وأيضاً بالتعاون مع البعثة الإسرائيلية لدى الأمم المتحدة، بانقاذ إسرائيل من عدد غير قليل من اقتراحات الادانة في مجلس الامن. لقد استخدم حق النقض (الفيتو)، بوضوح ومن دون تحفظ، ضد أي قرار ادانة لإسرائيل، وضد أي ذكر لاسمها؛ لقد مكّن إسرائيل من تفادي إدانة المجلس بعد مأساة بيت حانون، في اعقاب قتل أفراد عائلة فلسطينية بنيران دبابة إسرائيلية. وصد أيضاً عملية الاحتيال التي حصلت خلال حرب لبنان، في ما يتعلق بالتقرير الخاطئ حول عدد ضحايا بلدة قانا في جنوب لبنان. كما صد محاولة ادانة إسرائيل في اعقاب عملية شاطئ غزة، التي تسببت بموت عائلة غالية الفلسطينية.
يمكن توضيح إطار العلاقة بين بولتون والامم المتحدة، من خلال رده على سؤال صحافي في اعقاب اعلان استقالته. سئل إن كان يوافق على العودة إلى الامم المتحدة بطريقة أو باخرى، فأجاب مبتسماً، انه لا يظن ان احداً سيعرض عليه عرضاً كهذا، لكن إذا عرض عليه ذلك، فسيتمسك بالرفض.