حيفا ــ فراس خطيب
«العملاء»، معضلة تعاني منها الأراضي الفلسطينية منذ زمن طويل، وكانت أساس عمليات الاغتيال الواسعة التي طالت كوادر حركات المقاومة منذ الانتفاضة الأولى عام 1987، ولا تزال إلى اليوم تؤرّق الوضع الداخلي الفلسطيني

قصة العملاء في الأراضي الفلسطينية، من الألف إلى الياء، عرضتها القناة الإسرائيلية الأولى في شريط وثائقي تحت عنوان «عميل تحت الامتحان»، تحدّث خلاله العملاء عن تنكّر الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لـ«حقوقهم»، ومنعهم من العيش في إسرائيل، كما وعدتهم عند تجنيدهم.
ولا يزال العملاء، الذين تحدّثوا عبر الشريط، قابعين دونما تصريح في إسرائيل ومنبوذين من الفلسطينيين في الداخل ومن اليهود أيضاً، وقد قدّم جزء منهم، وبواسطة محامين يهود، التماساً إلى المحكمة الإسرائيلية العليا لإجبار الدولة العبرية على الاعتراف بهم كـ«عملاء»، إلا أنّ المحكمة أيضاً لم تقرر بهذا الشأن، لأنّ «إشكالية العملاء لا تزال غير واضحة».
ويعيش العملاء في إسرائيل «مرعوبين»، كما وصفهم الشريط، وخائفين من العودة إلى المناطق المحتلة، وخصوصاً أنَّ الشعب الفلسطيني لا يتهاون مع من تعاون. وبحسب المعطيات التي عرضها الشريط، فإن 942 عميلاً فلسطينياً أعدموا في المناطق المحتلة نتيجة تعاونهم مع الدولة العبرية.
ويكشف الشريط أن العميل الأول، واسمه ناصيف تركمان من منطقة جنين، اعتقل في كانون الثاني عام 1985 على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي نتيجة تورطه في قضايا تزييف وتجارة سلاح. وقد حكمت عليه المحكمة العسكرية الإسرائيلية بالسجن لمدة ستة أعوام، قضاها في سجن جنين. وفي تلك الفترة، سعى جهاز الأمن الإسرائيلي العام (شاباك) إلى تجنيده.
ويقول تركمان «وعدوني ببيت جديد. قالوا لي إني سأعيش حياة لا مثيل لها»، مشيراً إلى أنَّ «الشاباك وعده بأن تفتح أمامه كل الإمكانات اللازمة». ويضيف «كانت وضعيتي صعبة للغاية بعد خروجي من السجن، وهكذا تجندت»، مشيراً إلى أنّه «ساعد أجهزة الأمن الإسرائيلية بأمور لا توصف»، لكنّه اليوم قابع في اسرائيل بشكل غير قانوني لا يعترف به أحد. ويقول إن «الأجهزة الأمنية في إسرائيل لا قلب لها ولا ضمير».
بعد أربعة أشهر من اندلاع الانتفاضة الأولى، وعندما انكشفت عمالة تركمان، أصبح «التهديد على حياته جاثماً»، فهرب إلى داخل «الخط الأخضر»، لكن من دون أن يجد له مأوى، وحاول الاتصال بمشغّليه، إلا أنّ أحداً لم يرد عليه.
وفي كانون الثاني عام 1994، بعد تواجد تركمان أعواماً في إسرائيل، اعتقلته أجهزة الأمن الإسرائيلية ووضعته على حاجز الجلمة في الضفة الغربية لكونه يعيش في إسرائيل «من دون تصريح».
رفض تركمان العودة إلى الضفة الغربية خوفاً على حياته وظل واقفاً عند الحاجز. وبعد ساعات من الانتظار، اتصل ضابط إسرائيلي بأحد الجنود وطلب التحدث إلى تركمان، وقال له «اذا لم تدخل إلى الضفة، سأتصل بالشرطة الفلسطينية من أجل ان يعتقلوك عند الحاجز».
خاف تركمان من أن يقع بين أيدي السلطة الفلسطينية، ومشى ساعات حتى بزوغ الفجر ووجد سيارة أقلّته الى رام الله، حيث اتصل من هناك بالمحامية اليهودية غاليت ليفي، التي تتولى ملفه ضد إسرائيل وأقنعته بالتسلل إلى القدس المحتلة والعودة إليها.
أثناء تواجد تركمان في إسرائيل، حاول ابنه أن يقوم بعملية استشهادية في قلب إسرائيل. إلا أنّ أجهزة الأمن الإسرائيلية أطلقت النار عليه قبل أن يقوم بالعملية وجرحته، ولا يزال قابعاً في السجون الإسرائيلية بعدما حكم عليه بالسجن عشرة أعوام.
ورغم تعامل والده مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، إلا أنّ سلطات السجون تمنع تركمان من زيارة ابنه في السجن. أما ابنه الثاني فقد استشهد برصاص الوحدات الخاصة الإسرائيلية، أثناء مواجهات، ولم يبق من أولاده سوى الصغار منهم.
واسترجع تركمان تلك الفترة، مشيراً إلى أنّ «الشاباك» أراد التخلص منه. وقال إن ضابطاً أبلغه بأن «الشاباك» «يهتم بالعملاء غير المكشوفين في الضفة، ومن انكشف أمره يعني أنه انتهى».
تزوج تركمان ثلاث مرات، إلا أن زوجاته الثلاث يقاطعنه حالياً، ويتهمنه بتدمير العائلة. ويعترف «تهمة العميل لن تزول عني إلى الأبد. من سيتزوج بناتي؟ من سيقترب من العائلة؟».
ويكشف الشريط عن عميل آخر اسمه رفعت عودة، يعدّه الإسرائيليون من «جيل العملاء الثاني» بعد والده.
كان والد عودة شرطياً في شرطة قلقيليا أثناء الحكم العسكري. ولا ينكر عودة الإبن أنه تجنّد للعمالة مع إسرائيل «نتيجة التربية التي تلقاها في البيت»، مشيراً إلى أنّ والده العميل رباه على «أنّ الشعب اليهودي عانى الويلات. وعلينا مساعدته من ناحية أخلاقية ودينية». ويتباهي بعمالته قائلاً «منعت الكثير الكثير من الأخطار عن دولة إسرائيل».
ترك عودة الضفة الغربية وسكن داخل الخط الأخضر في قرية تدعى جلجولية في وادي عارة، ما أثار السكان الفلسطينيين في القرية، الذين تظاهروا ضد وجود العملاء؛ فقام عودة بقتل فلسطينيَين (فتى وطفل) من عائلة واحدة. وحكمت عليه المحكمة بـ13 عاماً فقط. خرج من السجن وسكن في مدينة حيفا.
وهو أيضاً تتجاهله إسرائيل. وقال غاضباً «هناك شخصية إسرائيلية كبيرة جداً في جهاز الأمن، وصلت إلى ما وصلت إليه بفضلي. وهو يعرف ذلك جيداً، ولكن إذا سألته من هو رفعت عودة فلن يتذكر».
ويعرّف الشريط العميل بأنه الإنسان الذي يشير إلى القنابل الموقوتة لأجهزة الأمن الإسرائيلية من أجل تفكيكها. ويقول إيهود ياتوم، ممّن شغل منصباً رفيعاً في جهاز الأمن العام، إن العملاء «مقاتلون حقيقيون»، مبيناً أنّ «الخطر على حياتهم وضعهم في الصف نفسه مع أفضل المقاتلين الإسرائيليين».