strong>يافا، عروس فلسطين الجميلة التي كُتب عن جمالها عشرات الكتب، غرقت في تداعيات الاحتلال. بقيت ملامحها والحجارة ذاتها. لكنَّ سكانها العرب بُعثوا قصراً إلى ما بعد بحرها، ومن بقي منهم يعيش في مآساة تكبر كل يوم
  • المرور في شوارع يافا، القديمة منها والحديثة، لا يترك حيزاً من الأمل. يحاول المرء أثناء التجوال في شوارعها المنهكة أن يكون «واقعياً» وأن يحيا غريزة «عشقه» للمدينة المبهمة؛ فيحاول أثناء مروره في شارع «الحلوة»، أطول الشوارع العربية هناك، أن يترفَّع عن «المراهقة السياسية». أن يختزل 58 عاماً من الاحتلال في «قدرته على الصمود» ليصمد

  • سرعان ما يكتشف المتجول في شارع “الحلوة” في يافا أنَّ صبيحة السبت الحار، التي تجفف بقايا قطرات الشتاء المتساقطة ليلاً على إسفلته، لا تدل القادمين إلى المدينة، بل تتركهم رهينة نظرات ثاقبة إلى فلسطينيين متعبين وعاطلين من العمل يحتلّون جوانب الطريق ومتاجر فارغة تنتظر الفرج. أناس ينتظرون أحداً يأتي اليهم، من بعيد ربما، ليهديهم الأمل في مدينتهم، «أم البرتقال وأم الغريب»، يافا... هكذا كان اسمها قبل النكبة، وهكذا ظل بعدها، لكنها اليوم صارت من دون غريب ولا برتقال.
    الساعة تقترب من العاشرة صباحاً في ذلك الشارع، المتاجر فتحت ابوابها للتوّ. أصحاب المحال يقفون على أبوابها، ومراقب البلدية يتجول بزيّه الازرق، يرتدي قبعة سوداء ويحمل «جهازاً للمخالفات». هو «النقمة» على التجار في كل صباح. كان يتجول بين السيارات الواقفة هناك، ويوزع أوراقه على كل مركبة. والصايغ، صاحب دكان للبقالة، يصرخ في وجهه: «كفاكم».
    يقول الصايغ «لا يريدون أحداً أن يوقف سيارته ويشتري من عند العرب. لا يوفرون موقفاً للسيارات ولا يتركون احداً يوقف سيارته هنا». يخبو صوته عندما يسجّل المراقب مخالفة لأحد زبائن الشارع ويدخل دكانه متمتماً بشتائم، شتائم ثقيلة.
    المشهد ينتهي عندما يعلو صوت كوكب الشرق وهي تغني «يا فؤادي». كان مصدر الصوت من مطعم أبو العبد القريب من دكان الصايغ. المطعم المشهور هناك، بسيط وشعبي، علّقت فيه صور ليافا القديمة. يعمل فيه أربعة شبان يتحدثون بهدوء دمث، ومن وراء بسطة «السلطات العربية» يقف شاب خامس، اسمه جلال الطوخي، شاب تعدى الثلاثين بقليل، قويّ البنية، سحنته سمراء ونظراته حادة. حديثه جمل قصيرة وواضحة. ويعدّ الطوخي «مثالاً يقتدي به الشبان في مدينة يافا»، هكذا وصفوه. فهو مدير إحدى المدارس الثانوية الناجحة في المدينة، ويعمل في مطعم العائلة أيضاً. وحتى الطوخي، عندما تسأله عن الحال في يافا، يبدأ حديثه، مثل أي شاب في جيله «الحالة تعبانة». ويسترسل بالحديث عن «المدارس السيئة والبيئة الموبوءة»، عن «التمييز» في المدارس الحكومية و«الفقر الذي يولّد العنف والإدمان في المدينة». يقول «أنا فلسطيني، لكنَّنا»، في يافا، «نعيش التصادم بين الهوية والواقع». يحبّ يافا. له اعمام في السعودية وغزة وفي كل فلسطين التاريخية. هو حال فلسطينية تقليدية عاش أهلها الشتات. وينهي الطوخي بقطرة من التفاؤل: «مع كل هذا، أهل يافا مثل اسماك في بحرها... يموتون لو خرجواالعودة الى تاريخ هذه المدينة، التي تقع على بعد 60 كيلومتراً شمالي غرب القدس المحتلة، يزيد حاضرها همّاً. سكنها قبل النكبة 178 ألفاً. هجر جميعهم باستثناء ألفين. احتضنت المدينة آلاف اللاجئين ويسكنها اليوم 60 ألفاً، منهم 20 ألفاً من العرب. المناطق العربية في يافا محددة بائسة، مثل «غيتو» كبير تحيط به المناطق اليهودية المبنية على أنقاض ما بقي من فلسطين التاريخية. كانت هذه المدينة رمزاً. كتبوا في جمالها عشرات الكتب. «نوستالجيا» مدونة على شاكلة كلمات. بلدة على الشاطئ، فنادق فخمة وواسعة، وبيوت تضاهي القصور بجمالها و40 مركباً ترسو عند مرفأ الصيادين فيها، بيّارات برتقال من اكبر بيارات العالم، مكتبات وحانات وسهرات ومطاعم ونوادٍ ليلية. مساجد وكنائس على امتداد شاطئها. في كتاب «يافا وجّك ولا القمر»، يذكر أهلها، ممن عاصروها في عزّها، كيف غنَّى محمد عبد الوهاب للبحّارة وكيف غنَّت ام كلثوم على خشبة مسرح الحمرا، وكيف ضحكت هناك للمرة الأولى على المسرح...
    الخروج من شارع «الحلوة» يعني التجوال في شوارعها الأخرى. زقاقات وغضب سائقين يحتل افقها الضيق. بيوت عربية جميلة البنية، قناطر وأسقف عالية يتداخل بينها بناء حديث على الطريقة الاسرائيلية في محاولة لتقليد ما كان. تقليد يفشل من النظرة الأولى. بين شارع «الحلوة» و«الميناء»، ثلاثة أحياء عربية تعاني حالاً بائسة. يبنون وسطهم «مركز بيريز للسلام». وفي أسفل تلك المناطق، القريبة الى الشاطئ، يوجد مرفأ الصيادين. والصيد في يافا لا يعني الأسماك والتجارة فقط. الصيد هو حياة قائمة وموروثة. اذا كان الجد صياداً، فالابن صياد حتماً، والحفيد كذلك. وجزء كبير من أهل يافا، ككل البلدات الواقعة على الشاطئ، صيادون.
    الصيادون في يافا متعبون. ترى بعضهم يتجول بين السائحين ليقنعهم بـ«شراء السمك». عندما تسأل أحدهم عن الحال، ينطوي على نفسه بخجل مفعم بالخوف. لا يجيب. يخاف من أن يكون السائل من «وزارة الزراعة الاسرائيلية»، التي تدير مهمة واحدة على المرفأ، مهمة اسمها «التضييق على الصيادين».
    عددهم يزداد يوماً بعد يوم، «لكن الأسماك هجرت الشاطئ»، يقول الصياد محمد زينب، الجالس على ذروة قارب قديم، تقاعد ورمي على الشاطئ. هكذا اعتاد منذ 25 عاماً. ينهي عمله الصباحي، يبدّل ملابس «الشغل»، ويعود إلى الميناء. يحبّ البحر إلى حدّ الإدمان. عريض المنكبين، سحنته سمراء، لحيته بيضاء، وبياض عينيه أحمر، بياض أكله ملح البحر. يقول زينب إن «الصيد تحوّل الى عبء، مصروفاتنا تزيد يومياً ومدخولنا يقلّ، لا يريدوننا هنا. يمنعون علينا الاقتراب من شواطئ حولون وتل أبيب. كلها مناطق عسكرية مغلقة، وحين نصل الى مكان الصيد المسموح، نكون قد أنفقنا ثمن ما بعناه يوم أمس على الوقود».
    لا يحكي محمد قصصاً كثيرة عن البحر، لكنه يكتفي بقوله إن «البحر أجمل ما يعيشه المرء»، ويعود الى «ماضٍ آخر» على هذا الميناء الجميل. «كان الصيد متعة والتجارة متعة، لكنهم أدخلوا الجرّافات إلى هنا». والجرافات، بلغة الصيادين، تعني المراكب الكبيرة التي يزيد طولها على ثلاثين متراً. يملكها صيادون يهود أغنياء. يبحرون فيها ويجرفون عن طريق شبك كبير كل ما يسير في البحر، يأخذون السمك الكبير ويرمون الصغير. «يقتلون السمك الصغير فلا يكبر، ونحن ننتظره كي يكبر». يشير محمد بيده إلى «مطعم فخم على الميناء»، قائلاً «كانت الأسماك ذات يوم في هذا البلد طعام الفقير، لكنَّها اليوم طعام الأغنياء فقط».
    لو أن الجدران تتكلم...
    الحي الفلسطيني القديم العريق الذي يلقي بظلاله على المرفأ، هو أيضاً للأغنياء فقط، اليهود طبعاً، فمنذ الدخول إلى البلدة القديمة في يافا ــ يافا الفلسطينية ــ لا تترك المشاهد هناك مساحة للتسليم بالواقع. مشهد لا نظير له في كل فلسطين التاريخية: بلدة قديمة فيها أجمل المباني، احتلّت كلها منذ النكبة ويسكنها اليوم «فنانون يهود»، يدّعون «اليسارية». البيت البسيط منها يصل ثمنه الى مليون دولار. لكن المليون وحده لا يكفي، عليك أن تكون «يهودياً وفناناً». مشهد لا يمكن رؤيته في أي مدينة تاريخية فلسطينية، لا في عكا ولا في حيفا ولا في القدس. فالفلسطينيون في عكا ما زالوا يسكنون احياءها القديمة برغم المخططات لتحويلها مثل يافا. وفي حيفا دمّروا البلدة القديمة «ولا عين تشوف ولا قلب يحزن». لكنَّ المخطط في يافا مر، مرَّ بحذافيره. الملامح ذاتها، الهوية ذاتها، الحجارة ذاتها. لكنَّ ناسها بُعثوا إلى ما بعد بحرها، حيث انتظرتهم السفن في النكبة ونقلتهم إلى مكان ما لم يعودوا منه بعد.
    التجول بين جدران يافا القديمة هو تجول صامت وخافت، تكسره طرقات باب لـ«فنان يهودي يساري» يدخل بيته المحصّن بالحديد الثقيل وقفل متطور. إلى جانبها، معارض فنية محصنة هي أيضاً بالفولاذ الثقيل، معارض «فنية» ممتدة على طول زقاقاتها الخالية من سكانها. صور لأرييل شارون من «انتصار 67» وصور لتيودور هرتزل، أعلام اسرائيلية في كل متر و«تطريزات اسرائيلية» ومحال تجارية سياحية تبيع صوراً لـ«مؤسسي الدولة»، وصوراً قديمة لمدينة يافا القديمة. المئذنة أول ما يبرز فيها، لكن هذا لم يمنعهم من أن يكتبوا عليها بالعبري «يافو» (يافا).
    الزقاقات مرمّمة ونظيفة إلى حد الإزعاج. وتحصينها مزعج. هناك، من الممكن القول، «لو أنَّ الجدران تتكلم....». هكذا لا يمكن تحمّل مشهد في بلدة قديمة. لا اطفال يتراكضون حفاة، ولا اصوات نساء تتعالى. ولا شبان يجلسون بين قناطرها. البلدة خالية، صامتة، تماماً مثل جدرانها.
    زقاقات البلدة القديمة، الجميلة في نظرة مجردة والمأساوية في نظرة معمقة، تؤدي كلها إلى الساحة العليا. هناك المركز التجاري السياحي للبلدة القديمة. وهناك أيضاً تقع «كنيسة بطرس». يقولون إنَّها من أهم الكنائس في فلسطين التاريخية، إلى جانبها ساحة يلعب فيها أولاد السائحين ومطاعم اسماك فخمة وفرق سياح يقودهم شاب يهودي متدين، يحكي لهم عن تاريخ هذه المدينة. حسب نظرته هو طبعاً.
    جدتي قالت لي
    هناك وسط الساحة المعدّة للسائحين، يقف شاب «يافاوي» من وراء بار للمشروبات يعمل فيه منذ سنوات. يحاول أن يكون حذراً في حديثه مع الناس. لكنَّه «يَطمئنّ للعرب» ويسترسل في الحديث معهم ولا يتوقف. قال: «جدتي قالت لي إن بيتها كان تحت هذه الساحة... وهذه الساحة لم تكن. جدتي تعرف كل شبر في البلد». وهو أيضاً يعرف ما يجري. قال «هنا على مقربة منّا كان مسجد، لكنه ليس موجوداً الآن. وكانت معالم وبيوت قصفها الانكليز أيضاً». الالتفات إلى المكان المشار اليه يعني الالتفات إلى مآساة أخرى فوق التي كانت. كان الحديث عن «بيت للدعارة» افتتح منذ وقت طويل هناك.
    العصر يمسّي على البلدة القديمة. البرد يتسلل إلى المكان على أناس مشاعرهم مثقلة. كان لا بدَّ من البحث عن مكان فيه أمل ليوازن ولو القليل من المشاهد الثقيلة ومن التعب المتراكم في شوارعها. الاختيار كان «مقهى يافا»، الواقع على «الحدود» العربية ــ اليهودية في المدينة. وهو عبارة عن مقهى وكتب، يجتمع فيه عرب فلسطينيون ويهود يساريون (وهم قلة قلة)، لفعل شيء ما في هذه المدينة. فيه صحف عربية وكتب من العالم العربي وكتب اسرائيلية باللغة العبرية. كان ابرزها كتاب عبري، «حزب الله بين لبنان وإيران»، غلافه صورة للسيّد حسن نصر الله حاملاً قطعة سلاح. وحول الكتب شبان وشابات عرب يتناقشون بهدوء. تقول صاحبة المكان، واسمها دينا، إن «هذه المكتبة هي الاولى التي تبيع الكتب العربية منذ عام 1948». لكنًّ المكان يضيع بين المقهى والمكتبة، وبين مآساة المدينة والقدرة على فعل شيء لإحيائها.
    إلى إحدى الطاولات تجلس جامعية «يافاوية»، اسمها زهية. تتحدث بهدوء مبطن. ستترك المدينة عما قريب، وستعود اليها. تحاول أن تكون حذرة في حديثها لـ«صحف خارج البلاد». «هناك فرق بين يافا في الأدب ويافا في الصحافة... في الأدب أجمل» تقول زهية، مشيرة إلى «مرارة الواقع، وبئس الحاضر فيها والصدام العنيف بين ماضيها وحاضرها»، وتضيف: «لا شيء في يافا اليوم. لا شيء». قبل الخروج من هناك، طلبت زهية طلباً خجولاً: «الحذر في تصوير يافا».
    كل شيء تغيّر في هذه المدينة ويتغير يوماً بعد يوم. لم يبق منها سوى رائحة البحر الذي لا يغيب. أهل البلد يتغذون على حكاياتها الماضية وعلى البيارات التي غلفتها والتي لم يبق منها سوى ذكرى، عن الثقافة والسياحة والعراقة وعن كل شيء. الحياة في يافا تضييق يومي. وهي من أكثر المدن التي تحتوي عائلات إجرام وفقر وبطالة. علاقات العرب باليهود علاقات معقدة الى حد المتاهة. أهل تل أبيب يخافون اهل يافا وشبانها، إذا كانت الأمور السياسية هادئة أو سيئة، وقد ساءت كثيراً في حرب لبنان الأخيرة ولم تلتئم حتى الآن. وقبل فترة وجيزة، جاءت مجموعة من العنصريين اليهود إلى البلدة يحمل أفرادها نقوداً أرادوا توزيعها على الناس العرب ليهجروها. من يرد ينل مبلغاً مالياً واستمارة تضمن له حياة وعملاً في الخارج. هبَّ أهل المدينة عليهم حتى أخرجوهم من هناك.
    طريق العودة من يافا ثقيلة ومنهكة. شوارع المدينة تنطوي على سكانها، والسائحون يعودون إلى سياراتهم الواقفة على «البوابة الكهربائية للبلدة القديمة». الهدوء يخيم على حجارتها والصيادون يعودون إلى مدينتهم. موعد الإفطار قد حلّ. وصوت المؤذّن يخرج من «مسجد البحر» الواقع في البلدة القديمة. صوت المؤذّن خافت للغاية، من الصعب سماعه،وهو كذلك على ما يبدو كي لا يزعج «الفنانين الاسرائيليين اليساريين» وهم في «قمة الإيحاء»!