اللاذقية | كل شيء يبدو مثالياً. التوقيت: السابعة والنصف صباحاً. المكان: الكورنيش الغربي لمدينة اللاذقية. الأكشاك الصغيرة، على طول الكورنيش، تصدح بأغنيات فيروز، وتفوح منها رائحة القهوة. الرواد الصباحيون يتوافدون تدريجاً بملابسهم الرياضية، وخطواتهم السريعة وفناجين قهوتهم الورقية، وشرودهم على المقاعد الخشبية. «البصّارات» يجلن بملابسهن الملونة بين المقاعد، عارضات خدماتهن.
«شو هاد؟ دخيلك يا رب!» صيحة شاذة عن المشهد، كافية ليتجمع عدة أشخاص حول الرجل، مصدر الصيحة، ليحملقوا جميعاً في جسد صغير يغطيه شرشف أبيض، من رأسه إلى أخمص قدميه، ممدد على أحد المقاعد الخشبية، الموزعة على طول الكورنيش. أحد الواقفين واتته الجرأة ليرفع الشرشف، كاشفاً عن طفل غارق في النوم. «الولد نايم مو ميّت»... «يا دوب عمرو سبع سنين، ما حرام ينام هاد بالشارع»... «متلو متايل، لك خلوه ينام إلو رب». يقول المتفرجون بوجوه واجمة، قبل أن يتابع كل في طريقه. الرجل أعاد الشرشف ليغطي الطفل. وبوجه ارتسمت عليه ملامح الفجيعة، جلس على المقعد المجاور متظاهراً بأنه يراقب السفن الراسية في المرفأ.
الكورنيش الذي يعتبر متنزهاً أثيراً لدى أهالي اللاذقية، يستقبلهم منذ الصباح الباكر، وحتى آخر الليل، بات اليوم محكوماً بملامح بؤس من شردتهم الحرب. لم يعد غريباً أن يتعثّر أحد المتنزهين بصندوق كرتونيّ يتكوم داخله طفل، أو أن يتسامر الساهرون، وهم يدخنون النرجيلة في أحد مقاهي الرصيف وفي إحدى الزوايا المجاورة طفل، أو رجل نائم. يبدو أن الناس تأقلموا مع قسوة الواقع، الذي فرضته الحرب، ولسان حالهم يقول: «إنها الحرب، وهؤلاء ضحاياها، ونحن بدورنا ضحايا محتملين».

فلك ولؤي في الحديقة

حين تطأ بقدمك «صبة الباطون»، يمين مدخل حديقة البطرني، تشعرك فلك، المتربعة على فرشة الكرتون، أنك تعتدي على حرمة بيتها. ابتسامتها الودود لا تخفي حذرها من أي قادم، يحرف مساره عن مدخل الحديقة، مقترباً منها. بعد اطمئنانها إلى أن الداني ليس من «مكافحة التسول» أو البلدية، تجيب عن السؤال حول صحتها، بأن تزيح غطاء رأسها، لتكشف عن آثار حمراء، خلّفتها قطب لجرحين كبيرين، وبينما تشير إلى قطب أخرى، تعلو عينها اليسرى، تهمس بأسى: «سكرانين بيجوا بالليل ع الحديقة بيضربوني. مرّة واحد منهم ضربني بعصا ع راسي، وتركني سايحة بدمي، وسرق شنتايتي. كان فيها هويتي، وكم ليرة تحننوا فيهم ناس عليي». وحين تلحظ النظرات المثبتة على أسنانها الأماميّة المكسّرة، تضيف: «أكلت صواب ع تمي من واحد من هالولاد الحرام، وانكسروا سناني، وكمان إيدي فيها كسر». فلك، التي تبدو في العقد السادس، رغم أنها لم تتجاوزالـ 47 من العمر، قدمت إلى اللاذقية من منطقة الباب، في حلب، بعدما طلقها زوجها، وطردها من البيت، بالتزامن مع اشتعال الأحداث هناك، وموجة النزوح، تشرح: «جيت مع يلّي تهجروا، وما لقيت مأوى غير الحديقة. ما بيقبلوني بمركز الإيواء لأنو ما معي هوية، وأنا ما بدي روح لهونيك. ما بخلّوا الخلق تطلع من المركز، وأنا ما فيني ع الحبسه». فلك تنام في العراء منذ شتاءين، وتعيش على صدقات رواد الحديقة، والعابرين قربها. هي لم تعد قادرة على العمل، بعدما أهرمتها الفجيعة، ويوميات التشرد. «قبل الحرب كنت شتغل بالأرض. أفلح وأزرع، بس بعد الحرب ما عاد حدا قدر يفلح أرضو، وبعد ما تهجرت من حلب، وجيت ع اللادقية، قالولي ناس لإشتغل بحواش الزيتون والليمون، بس ما عاد عندي عزم»، تقول. وتتابع: «راح الغالي ما أسافة ع الرخيص. ما بدي شي بهاي الدنيا غير لقمة الخبز، وها الفرشة. أنا ما بشحد من حدا، الناس لحالها بتحنّ عليّ بأكل وشرب». لا تنسى فلك أن تشير إلى لؤي، المهجّر من ريف حلب، والمقيم في الحديقة نفسها. هو وجد لنفسه عملاً بتنظيف المراحيض المخصصة لزوار الحديقة، وينام في مدخل غرفة المراحيض. لؤي، الذي لا يحب التحدث مع الغرباء، يعيش من الليرات التي «يفرضها» على كل راغب باستخدام المرحاض. عشر ليرات لقاء منديل ورقي، قد تزيد ممن يشفقون على حاله، وقد تنقص، وخاصة في آخر الليل، إن أثار طلبه استياء أحد المخمورين، أو البلطجية. أمّا أيهم، فقد اختار النوم على الرخام الأنيق، أمام بوابة مصرف، في أحد أحياء المدينة الراقية. الصبي الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره، بدا مذعوراً حين فتح عينيه ليرى وجوه موظفي المصرف، المتحلقين حوله. لكنه استجاب سريعاً ليد امتدت إليه، لتقوده نحو «بوفيه» المصرف. هناك، بين قضمة سندويشة، ورشفة شاي، سرد حكاية هروبه من حلب، بعدما فقد عائلته كلها: «مات أهلي كلهم بالحرب، ما عاد إلي حدا، شفت شاحنة للجيش، سألتن لوين رايحين قالولي ع اللادقية، قلتلهم أبوس إيديكم خدوني معكم، أنا ما عاد إلي حدا هون وخايف موت، حن قلبهم عليّ وجابوني معاهم»، يقول أيهم، ابن حي الكلاسة الحلبي، والذي يتحاشى شرح طريقة موت عائلته. هو اليوم يعيش في شوارع اللاذقية. يتسول ليأكل، وهو لا ينكر أن أعمامه يحاربون في صفوف «الجيش الحر»، لكنه يردّد أن أمه كانت موالية للجيش السوري، لعلّ ذلك يرفع من حظوظه، في مدينة معروفة بولائها للدولة والجيش. أيهم الذي أغفل من قصته بضع محطات له في اللاذقية، قطب جبينه لدى سؤاله عن سبب هروبه من دار الأيتام، متسائلاً: «إش عرفكن إني هربت من الدار؟»، وتابع مبرراً: «بدهم يجبروني إتعلم إقرا وإكتب، وأنا ما بدي إتعلم، وبعمري ما رحت ع المدرسة، لهيك هربت». وحين علم بأن أحد موظفي المصرف تواصل مع مخفر «الشيخ ضاهر» لإيجاد مأوى له، حيث تبين أنه من رواد المخفر، نظراً إلى هروبه المتكرّر من دار الأيتام، هرب مجدداً. يبدو أن حياة الشارع، ببردها وجوعها ومخاطرها، التي لا يمكن التنبؤ بها، باتت أليفة بالنسبة إليه.