دانيال بن سيمون ــــ «هآرتس»
كل لجان التحقيق التي ستؤلّف لن تنجح في التكفير عن الجريمة الحقيقية التي جرت أمام أنظارنا في حرب لبنان الثانية. اختفت الدولة بكل بساطة وكأن الأرض قد ابتلعتها. فهي لم تكن موجودة في البلدات والمدن الشمالية في الساعات الأكثر صعوبة التي مرت على السكان، هناك، الذين بقوا في منازلهم. فالدولة تقاس وفق أدائها في اللحظات العصيبة. وإسرائيل فشلت في هذا الاختبار.
الجثث التي بقيت عائمة فوق الماء في نيو أورليانز طوال أيام بعد إعصار كاترينا كشفت بصورة فظيعة عن الوجه الحقيقي للولايات المتحدة. إعصار كاترينا كشف النقاب عن ضعف الايديولوجيا التي تتطلع لإضعاف الدولة لصالح هيئات اقتصادية خاصة في السوق الحرة. طالما بقيت الوفرة التي يستمتع الجميع منها، فإن كل شيء يعدّ على ما يرام. ولكن بدءاً من اللحظة التي تندلع فيها أزمة إنسانية، تظهر هذه النظرة بكامل قسوتها ووحشيتها.
هذا ما حدث عندنا أيضاً في المناطق الشمالية إبّان الحرب. الدولة دخلت الى لبنان، وفي المقابل، فرت من التجمعات الشمالية متوقعة أن تقوم الجمعيات والجهات غير الحكومية بالمهمة بدلاً منها. هذا الفرار عبّر بصورة دقيقة عن الوجه الجديد لدولة إسرائيل. تخلت الدولة، بإشراف حكومات اليمين واليسار، في العقدين الأخيرين، عن وظائفها الأساسية ونقلتها الى السوق الحرة، وإلى هيئات تطوعية وجمعيات خيرية.
ينفطر القلب من المشاهد التي ظهرت في المناطق الشمالية. الفرار بدأ منذ اليومين الثاني والثالث من الحرب. من كان قادراً أخذ أفراد أسرته وفر من المكان. شاهدت قوافل من آلاف السيارات وهي تفر من حيفا في الأيام الأولى من الحرب. كل واحد بحث عن ملاذ يفر اليه، وكل حسب قدراته.
عشرات الآلاف، الذين لم يكن بمقدورهم الفرار ظلوا هناك سواء بسبب وضعهم الاقتصادي الصعب أو بسبب وضعهم الصحي. في الأيام الأولى، لم يقل أحد ما الذي يجب عليهم عمله. بعدما طُلب منهم التوجه الى الملاجئ، اتضح أن هذه الملاجئ ليست ملائمة للمكوث فيها. ركزت الدولة اهتمامها على الجبهة وتخلـت عن عمقها الداخلي.
اختفت مع الدولة أيضاً السلطات المحلية. في غياب التعليمات الواضحة، فرّ جزء من موظفي هذه السلطات من أماكنهم. كما أن السلطات التي نجحت في أداء وظائفها وجدت نفسها أمام وضع محطم. كانت أغلبية هذه السلطات، حتى من قبل أن تبدأ الحرب، في أزمة مالية وبالكاد نجحت في دفع رواتــــب موظفيهــــا. الآن، عندما طُلب إليها أن تعالج وأن تعتني بالآلاف، الذين بقوا في الملاجئ، تبين لها أنها لا تملك القدرة المالية والاقتصاديــــــة المطلوبة لذلك. توجّه رؤساء المدن إلى الحكومة طالبين العون لكنهـم لم يجدوا من يصغي إليهم.
وهكذا، وجد عشرات الآلاف أنفسهم من دون ملاجئ ملائمة ومن دون طعام وشراب ومن دون رعاية طبية أو عناية. لم تكن هناك، خلال أيام الحرب كلها، مرجعية حكومية واحدة تتولى معالجة الجبهة الداخلية. انهارت كل الأجهزة الاجتماعية للدولة.
دخلت الجمعيات والشركات الصناعية والهيئات التطوعية الى داخل هذا الفراغ. ذلك أنه ظهر، أمام أعين هذه الهيئات، خراب اجتماعي لم يظهر له مثيل منذ قيام الدولة.
جرت الجريمة الاجتماعية التي حدثت خلال الحرب بسبب ايديولوجيا تتطلع الى تحويل إسرائيل الى أميركا أخرى. أصبحت مثل رسم كاريكاتوري للولايات المتحدة. خلال العقدين الأخيرين، تآكلت شبكة الضمان الاجتماعي والتزام الدولة نحو الشرائح الفقيرة واختلّ التوازن بين النفقات الأمنية والنفقات الاجتماعية، لغير مصلحة الأخيرة طبعاً. كانت الذروة خلال سنوات حكم الليكود الخمس برئاسة أرييل شارون.
من الصعب الاعتقاد أن انتخابات جرت قبل أقل من ستة أشهر، وكان في سلّم أولويّاتها التطلع إلى تقويم المجتمــع الذي تشـــوّه لدرجة لا توصف من خلال الفجوات الاجتماعيـــــة. حظي إيهود أولمرت وخصوصاً عمير بيرتس بثقة الجمهور على أساس الوعد بالإصلاح.
الإخفاق الاجتماعي في الشمال جريمة أصابت بشرّها الشرائح الضعيفة في المجتمع الإسرائيلي. من الصعب أن نقدّر عدد المواطنين الذين ماتوا بسبب العجز الذي أصابهم نتيجة لذلك. لذكراهم لن يقـوم أحد هنا بإنشاء نُصب.