حيفا المحتلة | يستحضر الفلسطينيون في إحيائهم النكبة للمرة السابعة والستين على التوالي ذاكرة المكان؛ فزيارة القرى المهجرة تحديداً أكبر دليل على ارتباط الفلسطيني بحاضره المغيب وبأرضه المسلوبة. ولعل المفارقة على فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 أن تكون ذكرى النكبة في بلادهم متزامنة مع ما يسمى «استقلال إسرائيل»، لذلك يرفعون شعار «يوم استقلالهم يوم نكبتنا».
وفي هذه المناسبة، يستذكر فلسطينيّو الـ48 اليوم (15 أيار) احتلال وطنهم مع تأكيد حق اللاجئين في الشتات بالعودة إليه، ويضيفون على ذلك أن «التمسك بحق العودة لا ينفصم عن الانتصار للدول المظلومة كسوريا واليمن، في مواجهة عدوان الرجعية العربية المدعوم غربياً وإسرائيلياً».
ويبقى المشهد السوري، خصوصاً، بالنسبة إلى فلسطينيي الـ48 محور استقطاب لا يستهان به، فقد بدأ هذا الاستقطاب يأخذ منحى متصاعداً بتصاعد الحرب على سوريا، عبر انقسام بين معارضي الحرب من الفلسطينيين ومؤيديها، وهو فعلياً صار يلقي ظلاله على مناحي الحياة السياسية والفعاليات والمناسبات الوطنية، كيوم الأرض وذكرى النكبة ومسيرة العودة وغيرها. في سبيل ذلك، تتعرض الجهات المشرفة على تنظيم الفعاليات لضغوط من جهات يحركها المال السياسي (القَطري تحديداً)، بهدف منع رفع أعلام الدولة السورية خلال بعض النشاطات.
وترى الجهات المعارضة للحرب على سوريا ــ ومؤخراً للعدوان على اليمن ــ أن «الوحدة تكون على الحق لا على الباطل»، متسائلة عن فائدة توحيد العمل الوطني إذا كان الثمن إسقاط الوطن؟ على ضوء ذلك، ومع التراجع المستمر لنسبة المشاركين في مسيرات العودة وقبلها يوم الأرض، أخذت الجهات القومية واليسارية بتنظيم فعاليات خاصة تعبّر عن ارتباط فلسطينيي الـ48 بأمتهم العربية، لذلك، فإنه في سياق التعبير عن رفض العدوان على اليمن والحرب على سوريا، يُنظم اليوم (الجمعة) في مدينة شفاعمرو (شرق حيفا) مهرجان لإحياء ذكرى النكبة.

يرى فلسطينيّو الـ48 أنفسهم «مهجّرين» عن وطنهم الذي يعيشون عليه

وقد شدد البيان الذي أصدرته «اللجنة الشعبية للتضامن مع الشعب السوري وقيادته الوطنية» (الجهة المنظمة للمهرجان) على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وفي الوقت نفسه «ضرورة نصرة الشعب اليمني على طغاة آل سعود، ونصرة الشعب السوري والدولة السورية في مواجهتهما للإرهاب».
ولعل هذا الانقسام على سوئه في الظاهر، فإنه يؤكد بقاء الفلسطينيين هنا على اعتقادهم بأنهم جزء من الأمة العربية يؤلمهم ما يجري فيها، رغم محاولة «أسرلتهم».
على جانب آخر، لعل «مسيرة العودة» التي تنظم سنوياً للعام الثامن عشر على التوالي، كانت الحدث الأبرز في إحياء ذكرى النكبة، فهي جاءت في يوم «استقلال إسرائيل» نفسه الذي يجيء متقدماً على تاريخ الخامس عشر من أيار وفقاً للتقويم العبري، علماً بأن «مسيرة العودة» تنظمها «لجنة الدفاع عن حقوق المهجرين» و«لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية»، وقد نظمت (قبل نحو أسبوعين) في قرية الحدثة، الواقعة بين مدينتيْ طبريا والناصرة شمال فلسطين.
وإذا كانت مقولة رئيسة وزراء العدو السابقة غولدا مئير (الكبار يموتون والصغار ينسون) أكثر ما يحرّض فلسطينيي الشتات على ألا ينسوا حق العودة، فإن فلسطينيي الـ48 لا يحتاجون إلى ما يحرّضهم على ذلك؛ فقراهم، ما دُمّر منها وما بقي، ماثلة أمام أعينهم، وأراضيهم المصادرة يرونها صباح مساء، من دون أن يتمكنوا حتى من الدخول اليها، لذلك فهم لا يخوضون صراعاً أدبياً، بل مواجهة فعلية عنوانها المكان، ولا سيما تلك القرى التي تسيّج بالأسلاك الشائكة وبلافتات «ممنوع الاقتراب».
إزاء هذا التفاعل بعد عشرات السنين، بدأ الإسرائيليون يخشون على تأثر ذاكرتهم من النشاط الفلسطيني، فدعا بعضهم إلى تدريس «النكبة» في المدارس بوصفها «جزءاً من تاريخ الدولة»، وهي دعوات سرعان ما تحولت إلى سجال سياسي وحتى شعبي، علماً بأن وزير التربية في حكومة بنيامين نتنياهو السابقة كان قد دعا إلى تدريس تاريخ النكبة للتلاميذ اليهود، ولكن خليفته (جدعون ساعر) عارض ذلك بشدة، وقال: «لن نمنح الشرعية لمن يرى في قيام دولتنا نكبة له».
وعملياً، لا يرى فلسطينيّو الـ48 أنفسهم إلا «مهجرين» عن وطنهم الذي يعيشون عليه، فيما درج الإعلام الرسمي العربي على اجتراح مصطلحات مختلفة لمراحل فقدان الفلسطيني للمكان؛ فالذي تهجر من أرضه عام 1948 إلى الضفة المحتلة وغزة وسوريا ولبنان والأردن فهو «لاجئ»، أما الذي هُجّر من الضفة أو غزة عقب عدوان 1967 (غالباً إلى الأردن أو مصر) فإنه «نازح». ويبقى المهجّر هو الذي تهجّر من قريته أو مدينته المدمرة داخل حدود الـ48 إلى قرية أو مدينة مجاورة. وبالأرقام، فإن عدد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 48 حوالى مليون وثلاثمئة ألف، وفي أقصى تقدير 1.6 مليون، يعتبر أقل من نصفهم بقليل «مهجرين» داخليين.
أيضاً، ممّا يؤلم الذين بقوا في بلادهم وقاوموا التمييز والعنصرية الإسرائيلية، أن ملفهم غائب تماماً عن أجندات المفاوض الفلسطيني، أو حتى عن الاهتمام به إعلامياً، كأن هؤلاء صاروا «إسرائيليين»! يذكر أن الحاضر لم يشهد عودة «مهجر» داخلي واحد إلى أرضه، وحتى في «قضية اقرث»، وهي قرية مسيحية في الجليل الأعلى، حكمت «المحكمة العليا» الإسرائيلية منذ الخمسينيات لسكانها بالعودة إلى قريتهم، ولكن الحكومات المتعاقبة عرقلت تنفيذ القرار بأكثر من حجة، إلى أن عاد مؤخراً بعض شباب القرية من «الجيل الثالث» إليها، وأقاموا فيها بصورة غير قانونية، وفق الوصف الإسرائيلي.
إلى ذلك، تعمل الأحزاب السياسية أيضاً على إحياء فعاليات خاصة بها، كالمسيرات والندوات السياسية والتاريخية، ومن ذلك تنظيم «الحركة الإسلامية»، بقيادة رائد صلاح، تظاهرة من حيفا إلى القدس سيراً على الأقدام، قبيل أيام من الذكرى.