غزة | لا يمكن أن ينظر الفلسطينيون إلى النكبة على أنها قطعةٌ من الماضي تبخّرت. إنّها واقع يعيشونه بتفاصيل حياتهم اليومية. منذ عشرة أشهر، صار غزّيون كثر بلا سقفٍ يظلّلهم من فوق. ذهبت حروب وحلّت أخرى دون أن تقترب أجيال ما بعد النكبة كثيراً من معنى أن يستفيق الإنسان على «اللاشيء» و«اللامكان» خارج التاريخ. ولكن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزّة تمكّنت من «نحت» معنى التهجير والتشرّد تحت وطأة النيران والصواريخ.

«حرب غزّة الأخيرة كانت ولا حرب 48»، بهذه العبارة التي ردّدها الجيل الذي عاشوا النكبة ممّن شهدوا الحرب الأخيرة، يختزل الغزيّ علاء أبو رجيلة مشاعره نحو النكبة وما بعدها. لم تحمل عبارته مفاضلةً بين موت وآخر، بقدر ما حملت استيعاباً لنكبة 48 وإن لم يعشها. بدت ذكريات أبو رجيلة، الذي أعدم الاحتلال والده محمد أمام ناظريه في «بدروم» منزله في بلدة خزاعة (خان يونس ـ جنوب القطاع) عصيّة على النسيان، كأنّها تحاكي تماماً الذاكرة الحيّة لمن عاشوا النكبة.
«حرب غزّة الأخيرة
كانت ولا حرب 48»
وفق شهادة من عايش الاثنتين

إذاً، فعلت الحرب فعلتها، وأسقطت الملامة التي كانت تلقى بين فينة وأخرى على الفلسطينيين الذين نزحوا قسراً عن بلداتهم وقراهم، إذ يقول أبو رجيلة: «بعدما خرجنا في الحرب الأخيرة حفاة الأقدام وبملابسنا التي تغطي أجسادنا فقط، والقذائف تتساقط علينا ويسقط شهداء حولنا، لم يعد يمكننا القول إن هجرة أجدادنا من بلادهم كانت ترفاً أو استسلاماً». ويتابع: «صمدنا كما صمد أجدادنا تماماً، لكن هل من المفترض أن يحترق أطفالي جميعاً بنيران الاحتلال كي يقال عني إنني صامد؟».
وبرغم مرور عشرة أشهر على انتهاء الحرب، فإن أبو رجيلة يبدو مثقلاً بها، عاجزاً عن العودة إلى روتيني حياته، وقد تكون حاله كحال من عاشوا نكبة الـ 48، الذين ظلّت عقولهم معلّقة في بيادر البرتقال وروائحها.
أمّا الرفحاوي نبيل صيام، الذي فقد زوجته وأربعة من أطفاله في الحرب الأخيرة، فيبدو عاضّاً على جرحه، رافضاً أن يظل أسيراً لسرديات النكبة والحرب الحزينة على حد سواء. يقول صيام: «صحيح أنني فقدت أعزاء عليّ، وصحيح أنني أينما يممت وجهي أجد نفسي محاطاً بالخيام والكرافانات ومراكز الإيواء، لكنني أستعيد ذكرى النكبة هذا العام وكلي حقد على من هجّر آباءنا وأجدادنا من منازلهم... لنصل إلى ما وصلنا إليه من حرب مجنونة». ويضيف: «لا نتصالح مع أحزاننا. وستظلّ المقاومة وجهتنا حتى أعود إلى بلدي العباسية» (قضاء الرملة).
«بعد انتهاء الحرب الأخيرة على غزّة، نحن جيل اليوم عاد بعضنا إلى بيوتنا وإن كانت عودتنا مؤقتة، فإنه يحزنني أن هناك من أجدادنا من أغمضوا أعينهم للأبد دون أن يعودوا إلى بيوتهم الأصلية»، بهذه العبارة النوستالجية، أجاب الشاب الغزي أحمد قديح عن مدى ملامسة الحرب الأخيرة لنكبة الـ 48.
يحكي قديح، الذي ابتلع البحر أخاه أثناء محاولته الخروج من غزّة نحو إيطاليا في «قوارب الموت»، عن أجيال عايشت زمان النكبة بحذافيره، «وعادوا إلى ما درسناه في مناهجنا، بعدما ظلّوا بلا مأوى حتى اليوم جرّاء تنصّل الأونروا من دفع إيجاراتهم».
هكذا، لم تعد الأجيال الصاعدة بحاجة إلى آلة زمن ترجعهم إلى عهد التشرّد الأول، كي تصبح موقنة من أن مخلّفات النكبة لا تزال تنكبّ عليهم بلا توقّف!