محمد بدير
خرجت إسرائيل من حرب لم تنتصر فيها رغم استخدامها آلتها العسكرية الفتاكة أكثف أنواع الاستخدام وحشية. لا شك في أن الفشل الإسرائيلي الميداني حال دون تحقيق ما كان مرجوّاً من أهداف سياسية أُعلنت مطلع الحرب وخلالها، وهي أهداف يمكن اختصارها بمفردتين اثنيتن، تحكمهما علاقة سببية، لجهة كون أولاهما مقدمة منطقية للثانية: «1559» و«شرق أوسط جديد». الأولى، تعني ضرب المقاومة وتفكيكها كحركة عسكرية مسلحة، والثانية تطمح إلى منطقة لا مكان فيها لدول، أو جهات، «مارقة» عن الإرادة الأميركية ــ الإسرائيلية.
باختصار: إعادة صياغة المنطقة من جديد وفقاً لمشروع نيوكولونيالي. عبر هذه المقاربة البسيطة، والعميقة في آن، لأهداف الحرب، يمكننا أن ندرك أن النتائج التي استقرّت عليها خواتيم المواجهة العسكرية ليست سوى نصر استراتيجي في حسابات الطرف الآخر، المستهدف. يأتي البعد الاستراتيجي لهذا النصر من البعد الاستراتيجي نفسه للأهداف المعلنة. بعبارة أخرى، الفشل في تحقيق أهداف ذات طابع استراتيجي، هو فشل استراتيجي، وهو بالتالي إنجاز استراتيجي للجهة المستهدفة التي أوقعت هذا الفشل، وأوجدت علاقة عكسية بين النتائج والأهداف. هو إنجاز استراتيجي أيضاً بالنسبة إلى نقطة أخرى، ترتبط بتداعياته السلبية المرتقبة على الواقع الأميركي (والإسرائيلي) في المنطقة بصيغته الراهنة، والمؤملة. بمعنى أن مفاعيل الفشل لن تقف عند حدود موازين القوى التي كانت تحكم المنطقة عشية 12 تموز الماضي، فتعود حجارة الشطرنج إلى خاناتها التي كانت فيها عند هذا التاريخ. لقد أطلقت نتائج الحرب ديناميكية حتمية لا بدّ من أن تتفاعل حركتها في عملية رفد، سياسي ومعنوي، لمواقع الممانعة في المنطقة على حساب المواقع الأميركية والإسرائيلية، بأشكالها وتعبيراتها المختلفة. بهذا المعنى، يتحول إنجاز المقاومة من فعل سلبي امتصاصي (الحؤول دون تحقيق أهداف) إلى فعل إيجابي اقتحامي سيجد تعبيره، من بين جملة أمور، في إعادة صياغة التوازنات الداخلية والإقليمية في اتجاهات يمكن المراهنة على أنها ستكون معاكسة للرياح الأميركية. وليس ما نشهده في لبنان وفلسطين سوى جزء من هذه الصورة المرتسمة للتحولات المقبلة.
وأخيراً، لا بد من الإشارة إلى الجانب العسكري في الصفة الاستراتيجية لإنجاز المقاومة. فقد أثبتت المقاومة، بإمكاناتها المتواضعة، القدرة على تحدّي الجيش الإسرائيلي والتصدي له في مواجهة مباشرة وفي صدام رأسي، أخذا طابع الحرب النظامية، أو كان أميل إليها من حرب العصابات التي يُعدّ التراجع أمام زحف جيش نظامي متقدم من أبرز مبادئها. فعلت المقاومة ذلك وهي في أوج عملها الهجومي المتمثل بالصليات الصاروخية التي كانت تمطر بها شمال فلسطين المحتلة على مختلف المديات. عجز الجيش الإسرائيلي كان إذاً مضاعفاً. هو فشل في التقدم، وفشل في منع المقاومة عن التقدم، بالمعنى «الصاروخي» للكلمة. ولما كان الحديث عن الجيش الإسرائيلي، المعروف بعدم قدرته على تحمل الهزيمة لأسباب «وجودية»، فإن الوقوف على المعنى الاستراتيجي في إنجاز المقاومة يصبح أقرب إلى الإدراك.
أما لماذا هو نصر تاريخي، فلنكتف بالقول: لأنه يشتمل على كل تلك الأبعاد الاستراتيجية مجتمعة.