لم يتغير حسين منذ أن صار بين اللوز، ما زال وسيماً. يتحدث بطلاقة وإقناع. أراه يمشي في شوارع رام الله حاملاً الليل على كفّه كفرخ حمام. يزور المقاهي ويمازح الأصدقاء، ويكتب في كل مكان، حتى على الهواء يكتب، ويترك أثراً هنا وأثراً هناك ويذهب. يكرّرُ الأشياء بشكلٍ لا يمكن وصفه، بحيث لا تصبح ذاتها بين يديه، يُحِبُّ ويُحَبُّ، ويسفكُ الذكرى على الإسفلت ويمضي، وما زال يمضي كأن العالم لا نهاية له تحت أقدامه.
رأيته هذا الصباح يطمئنّ على عشِّ قبّرةٍ حديثة الريش، أطعَمَها قبضةَ حَبٍّ ملائكي، وأطعمته دفء ريشها، وقالت له كلاماً راح يخطّه على جذع شجرة. هكذا كانت كلماته دائماً، مكافآت من الطيور على حُبّه وحَبّه. حسدناه، ففي أحسن أحوالنا، كانت كلماتنا صدىً لصوت لم ندركه، أما هو فقد أدرك كلّ شيء قبل حدوثه، ولم يدّعِ نبوّةً يوماً.
يسيرُ في الأفق فأظنّه يسير في الهواء. فيضحك، ويقفز من جنونه إلى حيرتي المراهِقة. يفسّر لي لماذا تتنوّع الحكايات فيما الحدث واحد. يجمع حكايات شعبية ويطلقها مثل بلابل في سماء البلاد. فأقول بسذاجةٍ: كيف ستلمّها مرةً أخرى: فيركّز عينيه في عينيّ ويومئ: أجمل الطيور ما لا يمكن لملمة أجنحته. فأنكفئ كتلميذ خائب وأهمس: معك حق، لكنه يكون قد مضى، ولا يسمع جملتي الأخيرة.
يضحكُ أحياناً حين أسميه "الكوبري"، يقول أحبه ولا أحبه هذا الاسم. يكوّر يده حول فمه ويردد "كووبري"، فتستغلُّ الصخرةُ الملساء صوتَه لتصنع مجدها، فتسيل أصواتاً محبوسةً قبل أن ينشأ الزمن. يحمي عينيه من الرؤية، يقول ويداه خط دفاعه الأخير: لا أحتمل رؤيتين معاً، كلُّ رؤية تشبه فصلاً، وعلى كلّ فصلٍ أن يأتي وحده. أدّعي أنني فهمته، وينتهي الأمر بكأسي شاي على نار الحطب، وأغنية بعيدة.
ما زال يرتاح مع أنفاس الصبح، يخلعُ نظارته وجَمالَهُ الخارجي. يدخل إلى النوم كمن يدخل إلى معبدٍ قديم. يخدشُ حدودَ منفاه ليسيل المكان على المكان، ولينفرط الزمن في كل اتجاه. يا الله كم كان مضيئاً حين تركني قبل قليل! أشار لي بكفه، إلى أنه سيغفو لخمس دقائق بين لوزتين. ترك الضوء يتدحرج بين الأودية المعتمة، وذهب إلى غفوته، وما زلت أحرس نومه وأنتظر.