يطل العقيد في الجيش السوري، سهيل الحسن، من شرفة مقره قرب مناطق الاشتباك في محيط مدينة جسر الشغور (ريف إدلب الجنوبي الغربي)، مستطلعاً أحوال الإعداد للمعركة في المنطقة. المحور الجديد للقتال يمر في بلدة الكفير، على بعد ثلاثة كيلومترات جنوبي المشفى الوطني المحاصر منذ قرابة شهر من قبل مجموعات «تنظيم القاعدة في بلاد الشام ــ جبهة النصرة». قبل دخولنا للقائه كان يعقد اجتماعاً مع قادة بارزين يحملون خرائط وملفات عدة. خرج لتوديعهم بينما كنا ننتظر انتهاءه. ألقى التحية علينا قبل أن يصرّ على إيصالهم إلى سياراتهم بينما هم يطلبون منه العودة إلى الداخل.
العصا التي ظهر يحملها في آخر الصور الملتقطة له، يتّكئ عليها إثر رضوض في قدمه اليمنى لا يبدو أنها خطيرة. فخطواته ثابتة، ولا يبدو أن الرضوض تعيق حركته. كذلك فإن قبضة يده أثناء المصافحة ما زالت شديدة، تذكّر ببنيته القروية الصلبة، وهو الآتي من بلدة بيت عانا (مسقط رأسه)، في أقصى الجبال العاتية في ريف اللاذقية الجنوبي الشرقي.
يأبى العقيد الذي لقّبه محبّوه بـ«النمر» الظهور في الإعلام، من دون مبرر ميداني كبير. يقول: «دعهم يشيعوا ما يريدون عن وجودي داخل المشفى الوطني في جسر الشغور». يكمل العقيد: «سنحرر عناصرنا الذين لا يقلون أهمية عني، وسيعلم الناس أنني كنت من أقود المعارك من خارج المشفى». يشعل سيجارته «الحمراء الطويلة»، بينما يبتعد ذهنه إلى الأخبار القادمة من تدمر. لم تكن المدينة الأثرية في وضع جيد ساعة حدوث هذا اللقاء، يهمس لنا أحد حراسه: «لا تثقلوا عليه فإنه اليوم مرهق». يسمع العقيد ما حدّثنا به الحارس، فيطلب منه القيام بواجب الضيافة. لا يغيّر الحسن من عاداته منذ التقيته قبل قرابة عامين في تلال منطقة صوران في ريف حماه. كان يومها في مستهل إنجازاته الكبيرة. كان جسده أكثر نحولاً، لكن طلاقته في الحديث وفهمه الواضح لطبيعة المعارك الجارية لا يتبدلان. خاض معركة فك الحصار عن سجن حلب المركزي وقبلها فتح الطريق نحو حلب عبر خناصر والسفيرة، وفك الحصار عن معامل الدفاع قبل أن يتوسع في المنطقة الصناعية وما يحيطها، مستغلاً العامل المعنوي الكبير بعد فك الحصار عن مئات الجنود داخل سجن حلب المركزي الذين تطوع الكثير منهم اليوم مع قواته ويقاتلون في صفوفها. قاد تحرير جبل الأربعين وفتح الطرق نحو إدلب قبل أن يتوجه ليصدّ هجوم النصرة على ريف اللاذقية في آب 2013. وبذلك، بات يحمل اليوم على كاهله هموم قواته التي تفوق خمسة عشر ألف مقاتل على امتداد سوريا، «القرية الصغيرة والدولة الكبيرة» كما يحلو له وصفها. وأصبحت قواته وإنجازاته منتشرة من الجنوب في درعا إلى الشمال إلى البادية حيث استعاد السيطرة على حقل شاعر الاستراتيجي في الصيف الماضي، وأوقف تمدّد تنظيم «داعش».

الجيش التركي شريك للمسلحين و«داعش» لا يختلف عن «أحرار الشام» أو «النصرة»


يرشف قطرات من المياه ويفخر: «الإنجاز في القلمون استراتيجي... إنهم الصادقون»، في إشارة إلى رجال حزب الله. لا يخفي إعجابه بهم وامتنانه لما يقدمونه في سوريا ولبنان: «قاتلنا وسنقاتل معاً». يسترسل في الحديث عن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، واصفاً إياه بالأمين والصادق والرجل الذي قلّ مثيله.
لا يبالغ في توصيف الوضع في جبهة جسر الشغور: «هو أفضل مما كان عليه». ألم يحقق الجيش تقدماً في سهل الغاب على تخوم الجسر؟ يجيب بثقة: «فعلاً لقد كان تقدماً مهماً. وبسرعة قياسية منعنا أحلام الأتراك من الاقتراب من الساحل وحماه».
لا ينفع معه الاستفزاز الصحافي بالسؤال عن دور الأتراك. يعي جيداً أن أنقرة لم توقف يوماً دعمها للمسلحين، ومشاركتهم على الأرض في المعارك الحدودية: «نحن نتعامل منذ مدة طويلة على أن الجيش التركي شريك للمسلحين على الأرض. ولهذا نحشد قوانا ونتعامل بهدوء، بعيداً عن الاندفاع في المعارك الحساسة. لا تصدق أنهم يريدون قتال داعش. فداعش لا يختلف عن حركة أحرار الشام أو النصرة. فجميعهم أتباعهم وجميعهم أعداؤنا ونقاتلهم بالشراسة ذاتها. لدينا مئات الدلائل على ذلك. تتبدل المعارك والطبيعة الجغرافية والظروف الميدانية، لكننا لا نتراجع، نقاتلهم حيث يجب أن نقاتلهم». يؤكد الحسن أن قواته تتحرك وفق تعليمات القيادة وتوجيهاتها: «نحن مؤسسة عسكرية ولدينا رؤساء يقدّرون، ونحن ننفذ ما يطلبون». يعود ليتحدث عن الأتراك: «لا بد أنهم يريدون كسر قواتنا. بعد أن فتحنا معركة إدلب اعتقدوا أنهم سيحاصروننا بتقدمهم في جسر الشغور، لكن القوات لا تزال متصلة بعضها ببعض من المسطومة إلى سهل الغاب ونرسل الإمدادات، ووضعنا اليوم على الأرض أننا من نبادر ونهاجم، لكنهم يعاندون في جسر الشغور، بل يستميتون، ونحن لنا ثقة كاملة بأننا سنحرر المدينة. هذا قرار وهدف واضح للقيادة ولدينا».
بين عناصر قواته التي تعدّ معظمها من المتطوعين تلحظ أبناء أريحا وحلب وصافيتا وغيرها من المناطق السورية: «كلهم أبناء سوريا... نحن جيش عقائدي». يرفض زجّ أيّ بعد طائفي في الحديث، حتى لو كان من باب السؤال.
لا يوجد تلفاز أو مذياع في القاعة التي جلسنا فيها، لكن الحسن يواكب كل ما يقال وينشر. يدوّن على دفتر صغير بعض الملاحظات. اعتاد ذلك منذ أن كان في صوران وبعدها في ريف حلب. يطلب مزيداً من الأوراق، ويجلس بجانبه ضابط رفيع المستوى، يشاركه الحديث، مستفسراً عن الأماكن التي نغطي فيها. أعود لأطلب منه لقاءً مصوّراً: «التلفزيون السوري كان محظوظاً يوم فكّ الحصار عن سجن حلب المركزي». يجيب مبتسماً بالقول: «نحن العسكر لا نتحدث في الإعلام إلا بتوجيهات قيادتنا، ويكون ذلك بعد إنهاء المهمة. أنا واثق من إنجاز كامل المهمة في جسر الشغور. لن ندّخر جهداً نحو تحقيق هدفنا. لكنها معركة وعلينا الإعداد والتخطيط كما ترى، فعدوّنا لن يسمح لنا ببساطة أن ننجز ما نريد، لكننا أيضاً لن نسمح له بأن يحقق ما يبغي. ولعل الأعوام الأخيرة شهدت تغييراً كبيراً في خارطة السيطرة ومسير العمليات العسكرية».
يصرّ صاحب القبضة الحديدية على استكمال عاداته الشرقية. ينهض ليقدّم الضيافة لزواره. يتصرف كما لو أن الحاضرين أصدقاؤه. بات وجود الحسن في أي معركة عنوان اطمئنان للسوريين المؤيدين للدولة. يختم اللقاء بالقول: «بلّغ كل من تلتقيهم تحياتنا. ونعدهم بتحقيق الإنجازات واحداً تلو الآخر. إن شاء الله نلتقط الصور داخل جسر الشغور قريباً».