يحيى دبوق
تحريض متواصل لزعماء لبنانيين على «استغلال الفرصة الموفّرة إسرائيلياً»

تفرض حرب لبنان الثانية، كما يسميها الإسرائيليون، نفسها على مراكز البحث الإسرائيلية، التي تجهد في درسها وتحليلها واستخراج العبر منها.
ويبحث البعض عن إنجازات، فيما يبحث بعض آخر عن تخفيف آثار إخفاقات مسجلة، ويغلب على آخرين أرشفة الوقائع وسردها واختيار ما يناسبهم منها، وخاصة أن وقائع الحرب هي، من منظور إسرائيلي، مليئة بالضبابية ومشوشة، نتيجة التعتيم والتجنّد الإسرائيلي غير المسبوقين خلال الحرب، والى حد كبير، ما بعدها أيضاً.
حتى الآن، لا تغيير جذرياً يُسجل في المقاربات الإسرائيلية للعدوان على لبنان، ولم تبرز دراسة جدية، أقله إلى العلن، تبحث مدلولات الحرب وأبعادها الاستراتيجية في الواقع الإسرائيلي، سواء في ما يتعلق بمبادئ الأمن القومي أو النظرية القتالية للجيش والصناعات العسكرية، وسواء في ما يتعلق بدرس مدلول القوة وعملية تأثيرها على الواقع المحيط بإسرائيل، أو تأثيراتها على المجتمع الإسرائيلي نفسه، باعتباره مجتمع «مجتمعات متحدة»، على رغم قشرة التماسك التي برزت في بداية الحرب.
قد يصح القول إننا في فترة انتقالية دقيقة، ولا تزال تأثيرات الماضي تلقي بظلالها على الحاضر، فتمنع الدارسين وتشوش آراءهم، وخاصة أن فصول الحرب لم تنته بعد وإن سكت أزيز الرصاص فيها. وبانتظار المستقبل وانحسار منسوب التأثير الابتدائي للحرب على الباحثين، والى أن تغيب مراكز النفوذ السياسي والعسكري المرتبطة بالإخفاقات عن المشهد الإسرائيلي، ستبقى الساحة الإسرائيلية حبلى بأبحاث شبه متباينة وغير كاملة ولاهثة وراء إنجازات موهومة.
في هذا السياق، تبرز رؤية للباحث في معهد «هدسون» الأميركي لي سميث، الذي أقام طويلاً في بيروت وراسل عدداً من المراكز والصحف الأميركية، وهو يعكف حالياً مع باحثين آخرين على مشروع دراسة يشرف عليه مركز «القدس للعلاقات العامة» الإسرائيلي ذو الميول اليمينية، تحت عنوان «النموذج الجديد للنزاع في ضوء حرب لبنان»، وهي رؤية تزن، في الواقع، أكثر مما تستطيع أن تتحمله مرتكزاتها، وخاصة أن بعضها سقط، والآخر في طور السقوط.
يبحث سميث تحت عنوان «هل هناك جدوى من تزايد شعبية زعيم حزب الله ومنزلته ما بعد حرب لبنان؟»، (موقع مركز القدس للعلاقات العامة على الانترنت)، فيرى أن منزلة السيد نصر الله وشعبيته في لبنان والعالم العربي والإسلامي، على رغم إقراره بها، غير ذي بال ومؤقتة ولا يمكن أن يعوّل عليها، وفي ذلك يسوق أسباباً عديدة، يرتكز فيها، وتحديداً، على انتصار إسرائيل في تغييبه وقطعه مادياً عن جماهيره، وبالتالي تحوّله إلى صوت وصورة مسجلين، مع اشتراطه لاستكمال هذا النصر الإسرائيلي، مساهمة فاعلة من قبل زعماء لبنانيين آخرين، وهؤلاء، إلى الآن، لم يخيّبوا آماله.
  • الشعبية في السياسة العربية
    يردّ الباحث تزايد شعبية نصر الله إلى «الإعلام العربي والغربي وكذلك إلى الإعلام الإسرائيلي»، ويشبّه هذه الشعبية بـ«شعبية أبطال العرب العظماء الذين سبقوه، ذلك أن حرب نصر الله أسرت قلوب ملايين المسلمين». ويعتبر أنها «قليلاً ما تُترجم في العالم العربي سياسياً واستراتيجياً»، ويقارن بين نصر الله وثلاثة نماذج عربية، على رغم الفارق بينها:
    النموذج الأول، صدام حسين: ذلك أن العرب قد ثمّنوا مواجهته للولايات المتحدة بعد نجاته من حرب الخليج الأولى، لكنه اختفى عام 2003، وها هو الآن يمثل أمام المحكمة لجرائمه ضد الشعب العراقي.
    النموذج الثاني، أسامة بن لادن: الذي «استرجع الكرامة العربية» في الحادي عشر من أيلول وقتل أكثر من 2700 مدني في نيويورك. لكنه يعيش اليوم ومساعده الرئيسي أيمن الظواهري في الخفاء، وجرى قتل وأسر العديد من كبار مساعديه على يد الولايات المتحدة وحلفائها.
    النموذج الثالث، جمال عبد الناصر: الزعيم العربي الأكثر تأثيراً في القرن العشرين، ويُقارن نصر الله به في أغلب الأحيان. وعبد الناصر أسر الملايين من العرب نتيجة خطاباته المعادية للغرب، لكنه عام 1967 قاد العرب إلى هزيمة عسكرية تاريخية.
    من هنا، وعلى هذا التأسيس، يستنتج الباحث خطأ المقاربة الغربية، سواء من قبل الإعلام أو من قبل الباحثين والمحللين أو صناع القرار السياسي، «ذلك أنه خلافاً للديموقراطيات الغربية، التي تتيح للزعماء السياسيين اكتشاف شعبيتهم من خلال الانتخابات والاستفتاءات العامة، فإن الشعبية في العالم العربي تسجل بشكل مختلف، وعادة ما تكون السلطة السياسية الفعلية، بحد ذاتها، مجرد نهاية لها».
    ولإفراغ تزايد شعبية نصر الله في العالم العربي من تأثيراتها، يورد الكاتب مثلين صحيحين عايشهما القارئ، ليسقطهما على شعبية الأمين العام لحزب الله من دون ربط توضيحي بينهما:
    «شعبية صدام حسين لم تساعده كثيراً في محاولته ضم الكويت، فقد طردته الولايات المتحدة بسرعة. في المقابل، ضعف (الرئيس السوري السابق) حافظ الأسد في العالم العربي لم يمنع المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة من إعطائه حرية تامة في لبنان لعقدين من الزمن».
    «وضع نصر الله غير ثابت، لكونه لا يقود حالة، هو بالأحرى قائد لفئة. مع ذلك، هي فئة كبيرة ضمن حالة، ومن المفيد أن نتذكر أن لبنان مكوّن من مجتمع طائفي، ثلثا سكانه لا يتعاطفون معه (نصر الله)، هذا إن لم يكونوا عدائيين، فأغلبية مسيحيي لبنان، والسنة والدروز، رفضوا حرب نصر الله، وها هي أصوات شيعية تعلن استياءها من حزب الله»، ويستشهد الباحث على صوابية ما يذهب إليه بالسيد علي الأمين وكتَّاب شيعة مغمورين ضمن أصوات شيعية أُطلقت أخيراً ضد حزب الله في لبنان.
    ويُضيف الكاتب، «على ذلك، فإن قدرة نصر الله على تفعيل القوة في المنطقة غير متأتية من شعبيته الجماعية، بل من دعم سوري وإيراني، إضافة إلى قدرته على إقامة ساحة سياسية داخلية في لبنان، وخصوصاً أنه يمثل الفئة السياسية اللبنانية الوحيدة التي احتفظت بسلاحها».
  • النصران الإسرائيلي واللبناني
    ينتقل الكاتب إلى الفرضية الأساس التي يسعى إلى شحذ البراهين على صوابيتها، فيقوّم نظرية النصر الإسرائيلية، التي يحصرها في اختباء نصر الله وابتعاده جسدياً عن جماهيره ومحازبيه، ليخلص إلى أن تحوّله إلى أسامة بن لادن يكفل ضمور شعبيته لاحقاً، وهي فرضية أثبتت واقعة ظهور نصر الله في مهرجان الانتصار عدم صوابيتها، ما يعني فشل رهان الباحث والعديد من البحّاثة الإسرائيليين.
    ويقول الباحث إن «إسرائيل قد أنجزت في بداية الحرب نصراً مهماً لم يعط ثماره بعد، وذلك من خلال قصف مقر نصر الله ومنزله، وهو ما دفعه إلى البقاء تحت الأرض، وربما لبقية حياته»، ويذكِّر بما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت ومسؤولون عسكريون إسرائيليون من أن «زعيم حزب الله سيبقى ملاحقاً وهدفاًً للاغتيال وسيختبئ كأسامة بن لادن». ويتابع «انطلاقاً من حقيقة اختفاء نصر الله، فإن سفره سيكون صعباً ولن يستطيع الاجتماع براعييه الإيراني والسوري، فحركته ستكون مراقبة، وسيستخدم الوسطاء لنقل الرسائل وتلقّيها».
    اختفاء نصر الله أيضاً، بحسب رؤية الكاتب ومؤيديه، ستؤثر سلباً «على هالته التي انبثقت من حضوره الشخصي في شوارع بيروت وجنوب لبنان، لكن مع تحوله إلى تسجيل صوتي أو صورة، فإن معظم الكاريزما التي يتمتع بها ستتبخر، ذلك أنه سيجري تجنّب الاجتماع معه، ولم يعد قادراً على الإشراف على ما يجري حوله كما في الماضي، بعدما كان قادراً على قيادة الآلاف من مؤيديه والهتاف: «الموت لإسرائيل والموت لأميركا».
    ويستدرك الباحث من جديد، فيجد أن عملية الاختفاء لوحدها لا تكفي، بل يجب توافر مساعدة زعماء لبنانيين، فيقول إن «الأبعاد الكامنة وراء انتصار إسرائيل في دفع نصر الله إلى الاختفاء، ستعتمد بشكل جزئي على رغبة الزعماء اللبنانيين الآخرين، وخصوصاً الزعماء من السنة والمسيحيين والدروز، في استغلال الفرصة التي وفّرتها إسرائيل لهم. ويمكن هؤلاء الزعماء أن يستفيدوا من القيود التي فُرضت على تحرك نصر الله، وأن يخلقوا منافسة داخل المجموعة (الشيعية) كاسرين بذلك إحكام الخناق على السياسة اللبنانية».
    يُنهي الباحث رؤيته بإطلاق نصيحة للزعماء اللبنانيين المنافسين لنصر الله، انطلاقاً من النصر المفترض أن إسرائيل قد حققته في تخفّيه عن الساحة وتحوّله إلى بن لادن جديد، فيقول: «يعود مستقبل لبنان إلى قرار الزعماء اللبنانيين، فلهم أن يتركوا نصر الله يُدفن حياً من ناحية عملية ويركّزوا على قيادة بلادهم نحو السلام والازدهار، أو يعملوا على إنقاذ من قاد البلاد إلى الحرب وتسبّب بها بقرار منفرد».
    مع ظهور نصر الله علناً، وأمام جمهوره العريض في مهرجان الانتصار، تكون النظرية الإسرائيلية قد كُسرت، ويكون مشروع «مركز القدس للعلاقات العامة» قد كسر أيضاً، إذا كان مؤسّساً عليها، وبالتالي يجب البحث من جديد عن مرتكزات نصر إسرائيلي مفقود، في عدوان إسرائيل على لبنان.