حيفا ــ فراس خطيب
الأجواء التجارية في سوق وادي النسناس تحاول أن تكون خاليةً من السياسة، لكنَّ الاقتراب من إحدى المناطق المقصوفة هناك يحيي نقاش الحرب من جديد. فعلى مقربة من المكان، وإلى جانب حانوت للخضر، قال شخص يهودي لصاحب الدكان: «كنا نتوقع منكم ان تهاجموا نصر الله بعدما هاجمكم». فاقتربت امرأة عربية تحمل حاجيات ثقيلة، وضعتها جانباً وتدخلت في النقاش من دون أن يراها أحد. قالت: «لكنّه لم يهاجمنا». فردّ عليها: «وماذا تسمين قصف الوادي؟». أجابت من دون تفكير: «هذا رد فعل على ما فعلته اسرائيل... لا أحد يرضى بأن يتلقّى ضربات وألا يردّ».
كل شيء عاد ليكون عادياً في وادي النسناس، لكن بحذر. فما زال سكان المدينة اليهود يأتون إليه، مجبرين هم أيضاً. ويقول أحد شبّان الوادي متهكماً: «لا يستطيعون الاستغناء عن المناقيش والحمّص». وتابع «لكننا لسنا ضد أحد، أهلاً وسهلاً. فليأتوا. المهم أن الحرب انتهت. شيء منهم احسن منهم».
أصبح الصحافيون جزءاً من المشهد الحيفاوي. فقد وصل طاقم التصوير التابع لموقع «يديعوت أحرونوت» إلى مطعم «أم الأمير»، أقدم مطاعم الوادي. غالبية زبائن المكان من اليهود في ايام السبت. هناك، وقفت امرأة يهودية وقالت للمراسل اليهودي: «كنا نتوقع رداً منهم (أي العرب)، لكنَّ أحداً منهم لم يقل إنه ضد الهجوم. من حظنا أنهم لم يرقصوا على السطوح كما يفعلون في غزة». كان حديثها موجهاً إلى أم الأمير الجالسة على إحدى طاولات المكان متعبة مرهقة، لكنها لم تقل شيئاً سوى: «كل انسان حر كيف يفكر».
الجوّ حارّ في حيفا، تماماً مثل النقاش غير المنتهي. كان لا بدَّ من النزوح عنه بضعة أمتار، من طرف الوادي إلى قلبه، هناك يسكن الشاعر داوود تركي (أبو عايدة). يجلس أبو عايدة إلى طاولة مستديرة مبتسماً، ووراءه صورة كبيرة لطفل فلسطيني يهجم بحجارته على دبابة، وتحتها درع تكريم من «المنتدى القومي العربي» في لبنان.
يعشق أبو عايدة الزيارات، فهو لا يستطيع أن يزور احداً بعدما أنهكه المرض، وبعدما بتر الأطباء ساقيه قبل بضعة أعوام. لكنه ما زال يكتب الشعر، ويتابع السياسة.
ولد ابو عايدة قبل 80 عاماً، كان عضواً في عصبة التحرر الوطني، وانضم في عام 1949 إلى الحزب الشيوعي. كان من الفصيل الداعم للصين ضد الاتحاد السوفياتي. انفصل عن الحزب وأسس تنظيماً سرياً في الستينيات لخدمة سوريا. سافر إلى سوريا وتلقّى تدريبات على السلاح هناك. اعتقله الاسرائيليون في عام 1972، وحكموا عليه بالسجن 18 عاماً بتهمة «الخيانة». تحرر بعد 13 عاماً في صفقة تبادل الاسرى التي أجراها احمد جبريل. كان القصف اثناء الحرب بجانب بيته، لكنّه لم ينتقل منه؟ يقول: «اذا كان الموت مكتوباً علي، فلأمت على الأقل فوق الأرض لا تحتها في الملجأ». ولا يعتب ابو عايدة على احد نتيجة قصف الوادي، ويقول: «حين ظهر السيد حسن نصر الله وقال إن دماء أهل حيفا دماؤنا، قلت هذا يكفيني... لقد قال إن قصف الوادي كان بطريق الخطأ... وهذا يكفيني». لكنه مقتنع بأنَّ «حيفا لم تقصف بهذه الكمية من الصواريخ منذ عام 1945، عندما قصف الالمانيون قواعد بريطانية في فلسطين. ويستطرد قائلاً «اصبر، نتائج الحرب لم تظهر كلها».
عندما تسأله عن «التعايش» في حيفا يبتسم، ويحاول ألا يجيب بما يفكر فيه، لكنّه يفصح: «لا مشكلة لدي مع اليهود، المشكلة مع الصهاينة. اليهودية دين مثل المسيحية والاسلام. مشكلتي مع مشاريع الصهاينة».
لا يفعل الكثير في أوقات الفراغ. كتب مذكراته، وما زال يكتب شعراً. خطه جميل إلى حد الروعة. كان يتصل يومياً بإذاعة صوت الشعب اللبنانية، ليلقي قصيدة، لكنَّ الاستخبارات الإسرائيلية منعته من هذا. «قبل الحرب بيومين اتصلوا بي وقالوا لي اياك أن تتصل الى هناك ثانية». قبل الذهاب، اختار أبو عايدة، كما يحب في زيارته، أن يلقي قصيدة.
كان الخروج من بيت ابو عايدة نهاية النهار في وادي النسناس. المحال التجارية تغلق أبوابها، واليهود «انسحبوا» من المطاعم وعادو إلى الكرمل. الشوارع تخلو، وشبان الحي يتركونه باحثين عن مناطق «صاخبة». هكذا في كل يوم، مع نهاية النهار، لا يبقى في الوادي إلا حجارته وأهله القدامى.