حيفا ــ فراس خطيب
الليل يسدل ستاره على حيفا، ليكون ليلاً آخر، لا يحمل ما كان يحمله قبل 12 تموز. الليالي اليوم كلها سياسية، فأعباء الحرب الماضية تلقي بظلالها عليها، سواء عن اليهود في أعالي حيفا الحديثة، أو عند العرب في الأحياء القديمة والفقيرة.
إلى جانب طاولة في أحد المقاهي العربية الصغيرة، الواقع على أرصفة مركز حيفا القديم، يجلس ثلاثة شبان عرب حول طاولة واحدة. كانت الحرب بطبيعة الحال موجودة أيضاً. فعلى بعد مئة متر منهم، سقط صاروخ أثناء الحرب، وأثره لا يزال قائماً. قال أحدهم: «إن الحرب عمّقت أزمة العرب، وضعتنا عميقاً بين المطرقة والسندان»، لكنّ الآخر ردَّ عليه بصوت عالٍ وغاضب: «لم تعمِّق شيئاً… بل كانت الدليل على أنَّ انتماءنا صفر لهذه الدولة… هل كنت تحزن من قصف حيفا رغم محبتك لهاتبتعد هذه المقاهي عن صخب المدينة، المنطقة هادئة إلى حد الصمت. فالمرتادون إلى تلك الأماكن، لا يأتون من أجل السهر، بل لأنّ المقهى أصبح جزءاً منهم. غالبيتهم من طلاب الجامعات والفنانين والشباب الذين لا يفعلون شيئاً. أشغلت الحرب غالبيتهم، وحفزتهم على فعل شيء ما. منهم من فعل، ومنهم من يريد أن يفعل. هناك، لا يخلو المشهد من مصورين مبتدئين أو كتاب يحاولون استغلال «حرب لبنان الثانية» لكتابة سطر ما أو التقاط صورة ما لـ «حيفاــ تموز 2006».
كان الفنان جوليانو ميرــ خميس (عربي وأمه يهودية ليست صهيونية)، الذي أخرج فيلماً تناول قضية الاستشهاديين الفلسطينين، في المكان ويروّج لمعرض جديد اسمه «لا تنسوا لبنان ــ تموز 2006». طلب من الحضور «من يعرف فناناً يريد أن يعرض أعمالاً عن لبنان ليبلغني».
سينطلق المعرض من مسرح الحرية في جنين، الذي أسسه وافتتحه هناك قبل 5 أشهر امتداداً لمشروع أمه آرنا، التي بنت مسرحاً في جنين وهدمته إسرائيل في عدوان «السور الواقي» العام 2002.
بعث جوليانو قبل فترة وجيزة رسالة عبر البريد الإليكتروني وعمَّمها على آلاف الأشخاص. كتب فيها: «من سيرسم غيرنكا لبنان؟»، في إشارة إلى لوحة «غيرنكا»، التي رسمت بعد العدوان على فيتنام، فأحدثت ردود فعل في أوروبا. ويقول خميس إن «الأمور باتت واضحة. مهما حاولوا تغطية العزلة بين العرب واليهود، إلا أنَّ الحرب كشفت، نحن بوادٍ وهم بوادٍ».
ويقول د. جوني منصور، من كبار مؤرخي تاريخ حيفا، إن «هذه الحرب، كشفت عن هشاشة التعايش في هذه المدينة، لأن على العيش أن يسبق التعايش»، مشيراً إلى أن «حيفا مدينة واحدة، يسكنها شعبان لا يلتقيان».
الليل يقترب من نهايته بانتظار الغد. والناس في حيفا مقتنعون بأنه «لا جديد سيحل على هذه المدينة»، بالنسبة لهم، المدينة الحيفاوية هي الشق العربي فيها، هي 30 ألفاً من 275 ألفاً. هنا، أهل حيفا العرب، يختلفون مع اليهود في كل شيء، حتى حول منظر المدينة. اليهود يعدونها توأم «بيريوس» اليونانية، والعرب مقتنعون بأنها «توأم بيروت».