لم يعد قلب صفحات دليل الشركات والمعامل السورية يوفّر معلومات كافية للتواصل مع المنشآت الاقتصادية الخاصة. «وينن؟»، يبتسم العم أبو أحمد بمرارة، ويتمتم: «في تركيا دليل المعامل السورية أكبر». أوجاع الرجل لا تنتهي بعدما خسر معمله في حلب، وانتقل إلى دمشق ليفتح ورشة متواضعة، ويعايش أزمة البلاد عبر أزمته الشخصية في الحصول على لقمة العيش، بمساعدة صهره والمدير التنفيذي السابق في معمله القديم. يقول بحسرة: «لا يوجد يد عاملة... ألف كلم مربع مساحة معملي القديم. فيما أقضي أيام العمل الآن في المفاصلة والنكد مع أصحاب المحال التجارية لتسويق بضاعتي. زمان الوصل في حلب انتهى وأحاول أن أقنع صهري وشريكي بالتأقلم مع ظرفنا الحالي». يؤيد الشاب الثلاثيني أوجاع والد زوجته بحماسة، فهو اليوم يعتمد في عمله على خياطين بقوا في دمشق، إضافة إلى نساء غير خبيرات في هذا المجال، ما يجعل العمل طوال الوقت أشبه بـ«وجع راس»، على حد تعبيره. ويتابع قوله: «عليّ أن أتابع عمل الجميع. الانتباه إلى الشاردة والواردة مهمتي. لم يبقَ لديّ من يمكنني الوثوق بجودة عملهم، ما يتطلب مني جهداً وسهراً إضافيين». نسي أنس أيام تصدير بضاعته الممتازة، واكتفى بلعن الحرب التي أدت إلى تحكم أصحاب المحالّ والمعارض التجارية ببضاعته، وتحويله إلى صناعيّ مغامر يواجه الحرب مع قلة قليلة من زملائه الشجعان.
أضحت المناطق الصناعية خطوط تماس

لا يغيب عن الناس حال معامل محترقة، أو مسروقة، أو متوقفة عن العمل، بفعل انعدام القدرة على الوصول إليها. يتحسر من يقلّب صفحات البلاد الاقتصادية على 30 ألف معمل في مدينة حلب وحدها، تم تفكيك آلات 1300 معمل منها، ونقلها إلى الأراضي التركية، برفقة عمّال سوريين أيضاً. ولا شيء يحجب مرارة الأرقام التي تشي بفقدان أكثر من مليون ونصف مليون عامل أشغالهم، دفعة واحدة، بعد سقوط بعض أحياء مدينة حلب، وتشردهم في دول عديدة، لينخرطوا في عجلتها الاقتصادية، تاركين خلفهم بلادهم واقتصادها للنار والرماد. السقوط المتلاحق لأحياء ومدن صناعية في بدايات عمر الحرب، أفضى إلى انهيار في سعر صرف الليرة السورية، وصولاً إلى ما يزيد على 520 ليرة مقابل الدولار الأميركي.
وإذ تحتفل البلاد مجازاً بعيد العمال، لا يمكن تجاهل الغصة التي ترافق السوريين مع انتشار الموت والخراب في عاصمة البلاد الاقتصادية التي استحقت يوماً لقب «هونغ كونغ الشرق الأوسط»، إضافة إلى مدن صناعية عدة، منها ما يقع في دمشق.
لم يبقَ في البلاد معامل... وربما بقي منها القليل، حيث لا تتوافر إحصاءات دقيقة عن الخسائر التي تقدر بالمليارات. معامل الغزل والنسيج استُبدلت بها ورش نسيجية اعتمدت على اليد العاملة لنساء نازحات من نار الحرب. منطقة جرمانا مثلاً، تعجّ بتلك الورش، إضافة إلى مشاريع صغيرة ترعاها جمعيات ناشطة في مجال تقديم فرص العمل للنساء الأرامل والمنكوبات. فيما أضحت المناطق الصناعية ومواقع المعامل سابقاً، خطوط تماس، بعدما مثّلت الرزق والرخاء. معظم المعامل في ريف العاصمة تتركز في القابون وعدرا وصحنايا وعربين وسبينة وغيرها. والكثير منها اليوم أضحت خارج سيطرة الحكومة. يذكر ماهر الزيات، صاحب معمل ملبوسات، دخول المسلحين إلى حيّ جوبر المجاور لمنطقة معمله، والاشتباكات التي شهدتها المنطقة. يقول: «كانت مساحة معملي تتجاوز 1600 كلم مربع، ضمن مبنى مكون من أربع طبقات في منطقة القابون. اضطررت إلى الخروج من المنطقة، وساعدني الجيش في إخراج آلاتي ونقلها إلى حيث استأجرت مقراً آخر في منطقة الصبورة». لا يزال معمل الزيات ينتج معتمداً على 100 عامل، وبعض ورش النسيج التي تتعاون معه لتحقيق إنتاج جيد، رغم الحرب ونكسة الانتقال إلى منطقة أُخرى. «لن نتوقف عن العمل»، عبارة يكررها الرجل، الذي يشغل عضوية مجلس إدارة غرفة صناعة دمشق وريفها، ويحاول إيجاد حلول بديلة للصناعيين. يتحدث لـ«الأخبار» عن اتفاقية يعقدها أصحاب المنشآت الاقتصادية مع وزارة العمل، ما يلزمها بمدّ أصحاب الأعمال بطلبات التوظيف لشبان باحثين عن العمل. ويقول: «النقص كبير في اليد العاملة والخبيرة تحديداً، وخاصة في المجال النسيجي... الطاقة الإنتاجية انخفضت في سوريا كلها، ولا أرقام دقيقة عن التراجع والخسائر». محاولات الصناعيين الذين يرفضون التوقف مستمرة، بحسب الزيات الذي يقول: «عدت إلى طاقتي الإنتاجية الكاملة. معاناتنا الأولى تمثلت بالتقنين الكهربائي، ما رتّب علينا تكاليف باهظة وأدى إلى ارتفاع في التكلفة العامة. الشحن أيضاً معضلة كبيرة أدت إلى ضعف التصدير». ويضيف: «كنا نتعامل مع 13 دولة للتصدير. توقفت جميعاً عن طلب بضاعتنا، باعتبارنا عاجزين عن الالتزام وحماية بضاعتنا. آخرون توقفوا عن التعامل معنا لأسباب سياسية». التكاليف «مرعبة» أيضاً، بالنسبة إلى الشحن الداخلي، في ظل انعدام الأمان.
توافر المنتجات الوطنية بأسعار أقل من المستوردة... حقيقة يعرفها السوريون في فترة ما قبل الحرب. أما بعدها، فارتفعت أسعار البضاعة الوطنية بفعل ارتفاع المواد الأولية وخاصة المستوردة. يبرر إياد، صاحب محلّ تجاري، أسعاره المرتفعة التي تضاهي أسعار الخارج، بأنه يباهي بجودتها المنتجات الأوروبية. ويشرح صعوبة تأمين مواد تصنيعها داخل ورشته الواقعة في جرمانا، التي يدفع ثمنها بالدولار الأميركي، ليبيع منتجاته لمن بقي في البلاد من أثرياء دمشق، بأغلى الأسعار.