وحدها رائحة الرماد تعبق في أرجاء المكان. لا حياة هناك سوى لتلك الآلة الوحيدة، التي تحاول إزالة الأنقاض بضجيجٍ يزيد عبوس من يقفون على الأطلال. عدد من أصحاب المحال المتضررين يستنشقون غبار «شقاء عمرهم». ينظرون بحفنة أملٍ إلى تلك الآلة البليدة، متمنين أن يركض بها الزمن إلى ما بعد إعادة تأهيل السوق المحروق... أو يعود بهم إلى ما قبل الحريق الذي التهم من جيوبهم وقلوبهم الكثير.ينتظر أصحاب المحال المتضررة من حريق سوق «العصرونية»، وعمالها الوعود. سلّموا بالقدر الذي كتب عليهم. أكثرهم لم يحرك ساكناً، فالصدمة ما تزال حاضرة، والخسارة المعنوية والمادية كبيرة، وتحتاج إلى وقت لاستيعابها. أما العمل الفعلي، فلم يتجاوز التخطيط للفترة المؤقتة، التي ستمر قبل إعادة التأهيل المأمول.

خسائر متفاوتة
خسر تجار «العصرونية» ثروة أعادتهم عشرات السنين إلى الوراء

ينتظر رضوان الراعي وعد «غرفة تجارة دمشق» بتقديم المساعدات للمتضررين من الحريق. ورغم أن غيره من أصحاب المحال أولى بالحصول على تلك المساعدة، فإن محله من بين المحال القليلة التي خسرت جزءاً من بضاعتها فقط. أما غالبية المحال فقد تحولت إلى رماد، والسبب في ذلك «قدرة رب العالمين»، يقول.
خسر رضوان وأخوه سيف الدين حوالى خمسة ملايين ليرة سورية، ثمن البضائع التي تلفت أثناء عمليات الإطفاء. وخلال انتظارهما وعد «الغرفة»، سينقلان ما تبقى من البضائع إلى مستودع في منطقة «المناخلية» لفترة مؤقتة، استعداداً للعودة. فـ«العصرونية»، كما يقول سيف، «سوقنا... عشنا وسنعيش منه ولن نذهب إلى أي مكان آخر».

ما بعد الصدمة

أما خلدون هيلمية، فينتظر قرار مالك المحل الذي يستثمره منذ 4 سنوات. هل سيعوض له باقي أشهر السنة، والتي دفعها سلفاً، مقابل إيجار المحل السنوي أم لا. يأمل خيراً، فصاحب المحل لديه أبواب رزق أخرى.
سيحاول الشريكان، اللذان لم يستفيقا من الصدمة بعد، البحث عن محل بديل للإيجار، للبدء بالعمل في المهنة ذاتها (مبيع أدوات منزلية). فهما منذ الصغر يعملان في هذا المجال ولا يجيدان غيره. يعترفان أنهما صرفا العمّال الثلاثة، الذين كانوا يعملون لديهم في المحل والمستودعات.
يقول خلدون «أعلم أن لكل منهم عائلة، وقد فقدت مصدر رزقها، إلا أنني لا أستطيع أن أقدم لهم عملاً أو تعويضاً»، مشيراً إلى أن خسارته «أكبر مما يتخيلون... والحمدلله على كل حال».

من الصفر

كان وعد نصار قد خسر عام 2012 جميع مستودعاته، هو وإخوته، التي يملكونها في حزة وعربين، في الريف الدمشقي، نتيجة الحرب الدائرة. ومع ذلك، احتفظ بالأوراق الثبوتية التي تؤكد ملكيتهم لها.
أما اليوم، وبعدما ابتلع الحريق جميع تلك الأوراق، شعر بخسارته لتلك المستودعات مجدداً، إضافة إلى خسارة محل من أضخم محال «العصرونية». فقد ورثوه عن أبيهم وهو باب رزقهم منذ عشرات السنين.
خسر نصار واخوته كل ما في المستودع، يعتبرونه «ترتيباً إلهياً لا يمكن الاعتراض عليه». سيبدأ نصار وإخوته من الصفر، في محل جديد في السوق نفسه، بعد أن يخرجوا من الأزمة النفسية والمادية الكبيرة، التي حلّت بالعائلة. يؤكّد أنه، حتى الآن، «غير قادرٍ على استيعاب ما حصل»، رغم أنه رأى بأمّ عينيه لهيب النار يأكل السوق. بقى يشاهد لساعات، محاولاً إطفاء الحريق «وقلبي يحترق وغير قادر على عمل أي شيء»، يقول متحسّراً.

ظروف راهنة

خسر تجار «العصرونية» ثروة أعادتهم اقتصادياً عشرات السنين إلى الوراء. أما العمّال الذين لا يملكون أساساً سوى أجرهم فقد خسروا باب رزق من الصعب الحصول على غيره في ظل الظروف الراهنة.
إلا أن العامل حسن أبو دراع سينتظر إعادة إقلاع عمل التاجر الذي كان يعمل لديه. وسيقف إلى جانبه في أعمال الترميم والتنظيف، معتبراً أن الأزمة التي حلّت من الطبيعي أن تطاول الجميع، ولو كان ذلك على حساب لقمة عيشه. يستشهد بالمثل الشعبي «ماحدا بيموت من الجوع».
خسر أبو دراع، قبل سنوات، بيته ومحله في المليحة، في الريف الدمشقي، نتيجة الحرب. استطاع وقتها النهوض من تلك الأزمة، ومواجهة الصعاب. اليوم هو قادر على مواجهة هذا الظرف الصعب «الذي سيزول قريباً».
أما المحاسب في أحد محال «العصرونية»، وائل جوهر، فقد اضطر للعمل كـ«عتّال» في سوق الحميدية القريب، من أجل سد رمق طفيله التوأم. لا يلوم جوهر صاحب المحل الذي كان يعمل لديه منذ ثلاث سنوات، لأن خسارته كبيرة، وهو غير قادر في الفترة الحالية على إدخال أي مردود مادي. يرى أنها فترة مؤقتة وتنقضي، وسيعود إلى عمله، كما وعده رب العمل، معوّلاً على ما يتم تداوله بين الناس، وفي الإعلام، أن إعادة ترميم السوق سيتم خلال 3 أشهر.

ترحيل أنقاض وتوثيق

يشير مدير دمشق القديمة في محافظة دمشق، المهندس طارق نحاس، إلى أن العمل الحالي يرتكز على «ترحيل الأنقاض حتى يتمكن أصحاب المحال من إعادة ترميمها في أقرب وقت ممكن»، إضافة إلى «وضع المخططات لواجهات المحال الداخلية الخارجية لتكون جميعها متناسقة ومتشابهة كسوق مدحت باشا».
ويؤكّد، في مقابلة مع «الأخبار»، على أن «هذا أمر ملزم لجميع التجار، وبالطبع دون أن يخسروا أي مساحة». وعن التعويضات فيقول إنها «ليست من عملنا»، باعتبار أنها «من اختصاص جهات أخرى تقوم حالياً بدراسة الموضوع».