لبنان - سحر البشير
عزيزي أحمد
لا أصدق أنه مرّ على تحرير جنوب لبنان 15 عاماً! هالقد كبرت؟ لا أتذكر فعلاً تفاصيل المرة الأولى التي رأيت فيها قرية والدي. أذكر أنه منذ اليوم الأول للانسحاب الإسرائيلي توقفت الدراسة في مدرستي، وقضينا كل الدوام نستمع إلى الأغاني الوطنية. يومها قلت للناظر إن الاحتفالات هذه لا معنى لها، لأن قريتنا "البستان" لم تتحرر بعد. وهي بالمناسبة تحررت في اليوم الثالث على ما أذكر، ربما كان الأربعاء أو الخميس.

على كل، عندما أعلن بدء الانسحاب، قطع أبي تذكرة وأتى ليرى قريته التي غادرها منذ الاجتياح الأول عام 78. وانتظر حتى اليوم الثالث، وأيقظنا لنذهب إلى هناك، حيث تربى وتعلم، ولم يستطع دفن والديه. قطعنا صور، الناقورة، ثم حاجز الحمرا، وهو غير الحمرا تبع بيروت. هو الحاجز الذي كان يفصل الجزء المحتل من الجنوب ويحرسه عملاء جيش لحد. كان في عجقة ناس، بعضهم ممن بقوا في الضيعة أيام الاحتلال، والأغلبية من "المهجرين". لم يكن فيها ما يلفت النظر، بيوت كئيبة وفقيرة، أراضٍ مزروعة تبغاً وزيتوناً. يومها شربنا شاي "لطلع من عيونا" في بيوت من يفترض أنهم أقاربنا. بس بتعرف شو سمّة البدن!! بيت جدي أبو موسى ليس في "البستان"، بل في قرية "يارين" المجاورة. مش مهم، المهم أن والدي رأى ضيعته بعد كل هذه السنين، على عكس أمي.
هل أخبرتك أن الضيعة تقع مباشرة على الحدود؟ يعني في المرة الأولى التي رأيت فيها "البستان" رأيت فلسطين. مشينا إلى آخر الضيعة وعلى أول "مروحين" رأينا مستوطنة تفصلنا عنها طريق للآليات العسكرية الإسرائيلية، وأراضي مزروعة على الجانبين. يومها انتظرنا حتى المساء لنرى أضواء صفد. ما بعرف صراحة إذا كان ما رأيناه هو صفد أو القرى المحيطة بها، لكن الأكيد أننا رأينا بلد أمي.
"قولتك" يا أحمد بجي زي هيك نهار وبصير ينفع إجي من بيروت لحيفا نطش؟!
قولتك؟!

■ ■ ■


٢٥ أيار ٢٠٠٠



حيفا - أحمد خليفة

عزيزتي سحر،
وإحنا صغار كانوا ياخذونا في المدرسة رحلات للحدود، عند المطلة تحديداً، وللتحديد أكثر وأكثر عند "الجدار الطيب". هيك كان اسمه للسياج الحدودي الي بفصل بيننا. شايفة الدلع هون؟ حتى السياج اله اسم. الرحلة كانت بتزهق إلا إذا بكون حظنا حلو ويصحلنا نشوف لبناني/ة مارق/ة جنب السياج. ساعتها نموت واحنا نشوحلهم بايدينا حتى لو ما عبرنا ولا حتى بتطليعة.
صحيح... ما قلتلك ليش اسم السياج كان هيك؟! لأنه كان "يحمينا احنا اللي هون" منكم انتو الي خلف السياج. المفروض في مخيلتنا انكم تكونوا وحوش، ولو ما في جدار بدكم تاكلونا احنا واليهود اللي هون – يم هيك كاننا واحد احنا واياهم- بلا ملح! هيك على الأقل كان يشرحلنا المرشد السياحي الي هناك، وبس كنا نطلع بالباص، الأستاذ كان يحكيلنا انه "مش دقيق" حكيو للمرشد، بس هاي قصة طويلة مش رح نفهمها لأنه بعدنا صغار! وبتعرفي كيف وإحنا صغار إذا قال الأستاذ، معناها خلص، هو عارف شو بقول.
المهم شو بدك بالطويلة... في سنة الألفين قبل 15 سنة (أنا مكبرتش طبعاً، بس انت كبرتي) وتحديداً في فترة التحرير كان في شغلتين بيهموني في الحياة: بطولة أوروبا للأمم في كرة القدم وامتحانات التوجيهي الي بقرروا مستقبلي. بيني وبينك المباريات كانوا يهموني بكثير أكثر من الامتحانات، لدرجة أنه كنت أدرس بس عشان أمي تسمحلي أشوف مباريات! وهيك ما بلشت الامتحانات إلا وإسرائيل معلنة انسحابها من جنوب لبنان! ع فكرة، لبنان دايماً بتخربلي الامتحانات بشي مؤامرة كونية: بالألفين بالمدرسة وبالألفين وستة بالجامعة (والناس فرحت والشاطر الي بكتب مقال أو بعمل ندوة عن الموضوع ) وقتها مكنش في ستاتوسات. والكل كان شاطر حينها لأنه ما كانوا مكتشفين أنه المقاومة أساساً "شيعية" وأنه "الشيعة هذول روافض ومجوس"!
سنة 2015 تعرفت عليكِ وع محمد وعبد كمان، وصدقي أو لا تصدقي، أنا كمان رجعت شفت فلسطين بعينيكم بعد ما كنت محبط قبل ما أشوفكم بكم يوم بس! تستغربيش أنه السبب الأساسي في تجديد مكامن الطاقة عندي هو انتو. لأنه قبل بشهر تماماً من لقائي فيكم، كان أغلب "المناضلين" الي بعرفهم يدعوا الناس يصوتوا للكنيست الصهيوني عشان يحافظوا على بقائهم!
بعرفش إذا رح تزورينا بحيفا قريباً. بس متأكد أنه كل ما كثرت الأيام اللي زي 25 أيار 2000، كل ما قربت زيارتك أكثر... وحالياً تنسيش انه بنتي أرز بتعرف أنه في إلها حصة بلبنان، وبكرا رح تعرف أنه لبنان إلها حصة أكبر بفلسطين. وضيعة أبوكِ في لبنان زيها زي ضيعة أمك بفلسطين تماماً... ناطرتك.