ريمه راعي
اللاذقية | يجول هشام بعينيه في المساحات الواسعة أمامه، ويده تمسك المعول. عليه فلاحة الأرض تحضيراً لموسم الزيتون، وزراعة بضع شتلات بندورة وخيار.

بينما يضرب معوله الأرض، يستعيد أياماً كان يدرس فيها تحت إحدى الأشجار، ويتولى والده الأعمال الزراعية، وكلما حاول مساعدته قال له: «أنت ادرس يا بيي، دراستك أهم». للسنة الثالثة على التوالي يتولى هشام سلوم، طالب الهندسة الزراعية، فلاحة الأرض مكان والده، الذي اختطفته مع عائلته «جبهة النصرة» في طريق عودتهم من قريتهم «سريجس» في ريف بانياس باتجاه الحسكة، حيث كان يعمل الأب موظفاً في حقول النفط. يشرح سلوم: «كنا في باص تابع لشركة النفط، لما وقفت الباص جماعة من جبهة النصرة، أخدوا هوياتنا، وخلوا شوفير الباص يسوق حتى وصلنا مدينة تل أبيض ونزلنا بمدرسة عاملينها مقر. استقبلنا واحد معه ساطور كبير صار يقول: بالذبح جيناكم. كان همهم يعرفوا طائفة كل راكب». يتابع هشام حكايته عن ليلة طويلة من التعذيب والرعب، قائلاً: «حبسوني مع أمي وأختي بغرفة، وأبي أخدوه مع الباقيين لغرفة تانية. تاني يوم أطلقوا سراحنا، أما أبي والباقين ضلوا عندهم».
لا يعلم هشام عن مصير والده شيئاً، قد يكون اليوم أداة يستخدمها «جبهة النصرة» في استخراج النفط، وقد يكون قُتل. لكن ما يعلمه منذ يوم عودته إلى البيت دون أبيه، أن عليه أن يكون رجلاً وليس فتىً لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره. يضيف هشام: «ما كان ممكن خلي فجيعتي بأبي تهزمني، أصريت إني أدرس وأنجح وأفلح أرضي ودير بالي على عيلتي، وفي متلي كتار هون بالجامعة. كل واحد عنده قصة مع الحرب والكل مكملين».

«الطالبة الأكبر»... أم شهيدين

تعد نجلاء الأوراق النقدية القليلة التي كسبتها مقابل عملها ليومين في قطاف البرتقال. تقتطع أجرة الباص وثمن دفتر جديد. تضع الباقي في الدرج وتخرج في مشوارها اليومي على الطريق الترابية من بيتها في ضاحية بسنادا نحو موقف الباص. درب طويل يتسنى لها خلاله أن تقيم صلاتها الخاصة على روحي ابنها ورد وابنتها شام، اللذين استُشهدا في دمشق منذ عامين، ولا قبر لهما تضع الريحان على رخامه، فقد تناثر جسداهما كأوراق وردة إثر انفجار قذيفة هاون.

تتجه نجلاء (71 عاماً) بثوبها القروي
الطويل نحو الكلية
تتجه نجلاء برغل (71 عاماً)، بثوبها القروي الطويل ومنديلها الأبيض نحو كلية الآداب في جامعة تشرين، ليلتقي خريفها بربيع عشرات الطلاب والطالبات. تجلس بقامة منتصبة على مقعدها في قاعة المحاضرات، وتقول: «الحرب أكلت من قلبي، استشهدوا ولادي وطالعوني المسلحين من بيتي بالقابون وحرقوه. نمت أيام بالحديقة مع ولادي وبعدين نزحنا عاللاذقية». تضيف، وهي التي ذاقت مرارة التهجير حين نزحت وعائلتها من الجولان المحتل: «ما طالعت من بيتي إلا هويتي وشهادة الابتدائية ومحو الأمية يلي أخدتا وأنا عمري 54 سنة، ولما استقرينا باللاذقية قررت قدّم التاسع وكان عمري 69 سنة. نجحت وتاني سنة قدمت البكالوريا. أبو ولادي كان يشجعني، لكن مات قبل ما تطلع النتيجة وأنجح».
يتوقع زملاء نجلاء، الجدة لـ 15 حفيداً، دخولها «غينيس» للأرقام القياسية بوصفها أكبر طالبة في جامعات سوريا، فتبتسم وتقول:« ليش لا؟». وتؤكد أن السوري أثبت أنه جبار وقادر «عم اشتغل بحواش الليمون والزيتون وأدرس وأنجح كمان. مع كل شي صار معي ما حنيت ضهري وما انكسرت».

قميص أمل

«كان عندي قميص أبيض مزين بورود حمر، ضل ع حبل الغسيل ببيتنا بإدلب. بيخطرلي أحياناً شو صار لونه هلق؟»، تقول أمل، الطالبة في كلية الآداب، التي لا تنسى أبداً تلك الليلة حين سمعت صراخ أمها تناديها ليهربوا بعد هجوم المسلحين على المدينة، لتكون بعد دقائق محشورة وإخوتها في باص كبير متجه نحو اللاذقية، يقلّ الهاربين من جحيم الموت وقطع الرؤوس.
وتتابع حكايتها: «باللاذقية ضلينا بمركز الإيواء كم أسبوع حتى عطانا رفيق لأبي بيته بضيعة المزيرعة لنسكن فيه مؤقتاً، وجبلنا أكل وحرامات. قضينا أول فترة مكسورين وموجوعين بعد ما فقدنا كل شي وصرنا نعيش ع المعونات ومساعدة الجيران، لكن بعدين صار لازم نبدا من جديد حتى نكمل ونعيش». تشرح أمل أن والدها الذي كان يملك «صالة إنترنت» في إدلب، بات يعمل أجيراً في محل صيانة كمبيوترات، بينما تعمل أمها في تقطيع الخضار لأحد المحال، لتوفير النفقات اللازمة لعودتها وأخوتها إلى الدراسة. وتضيف: «أخواتي الصغار تسجلو بمدرسة، وأنا صرت داوم بالجامعة وأشتغل بعد الدوام بمكتبة. زملائي طلاب من حلب والرقة وحمص ودير الزور بيجمعنا أنو كلنا مهجرين راحت بيوتنا وأرزاقنا وفقدنا أحبابنا، لكن كلنا عم ندرس ونشتغل وبدنا نعيش ونضل».